عبد الغني خنجر شاهد على الجلاد (عيسى النعيمي): تعرفت عليه في غرفة فليفل رقم (13)

2013-01-02 - 4:38 م

عبد الغني خنجر

مرآة البحرين (خاص): على مدى تاريخ التعذيب في المعتقلات البحرينيّة؛ برزت العديدُ من أسماء المعذبين الذين لمعت "أنيابهم"، وتلطّخت أيديهم بالدم والجرائم المنكرة. وفي فترة السلامة الوطنية (الطوارئ)، لم يكن كلّ الجلادين بنفس مستوى الشراسة والتعطّش للفتك، فقد تتعدّدت الأدوار، ولم يكن الجميع يلعبون الدّور نفسه. كان هناك (هلافيت)، يُتقنون الضرب و"التعليق" والسلخ وصبّ القذارة على المعتقلين، وهناك (بلطجية كبار)، يُهندسون عمليات التعذيب، ويشرفون عليها، وينغمسون في كلّ تفاصيلها. 

هندسة التعذيب والإرهاب - التي يقودها جهاز الأمن الوطني - يضع قواعدها الكبار، وكبار الكبار في مدرسة التعذيب الممنهج، حيث ابتكار أدوات التعذيب المعبّرة عن انحطاط خلقي قيمي هائل. والمقصود بالكبار هنا؛ هم أولئك الذين لا تبرز أسماؤهم كثيراً، ولكنهم – في الحقيقة - يتولّون القيام بأبشع عمليات التعذيب النفسي والجسدي، ويشرفون على التوجيه والقتل و(البلطجة) الرسمية. وفي هذا المجال تبرز بعض الأسماء. ومنهم، الجلاّد (عيسى حسان النعيمي)، وسوف نستعرض لمحة حول شخصيته وبعض أدواره، كما نتطرّق إلى أبرز القضايا التي حقّق فيها، وكيف أظهر خلال ذلك قدراً كبيراً من النّزق الإجرامي والعفونة الطائفيّة، حيث يُعذب انطلاقاً من "شهوة عقائدية" تشرّبتها روحه المسكونة بمحفّز ديني "مذهبي" يُسوغ له ارتكاب الفظائع، وتعذيب ضحاياه حتى الموت، مادامت تختلف معه في الانتماء المذهبي. بهذا الاستعداد المذهبي البغيض؛ كان يرفض أن يسمع من ضحاياه شيئاً غير الصراخ وآهات الألم، متباهياً في ذلك بشجاعةٍ مصطنعة، ومحاكياً صورة وحشٍ تقوده غرائزه نحو تمزيق الفريسة، التي لا حول لها ولا قوة، ومن ثم الولوغ في دمائها بكلّ بشاعة.

في أول لقاء جمعني به، كان النعيمي مجرّد نقيب يعمل تحت إمرة الجلاد والعقيد السابق الفار عادل جاسم فليفل. تحديداً، كان لقاؤنا الأول في شهرر مايو من عام 2000م، حيث تعرّضت لآخر اعتقال على خلفية المشاركة في انتفاضة التسعينيات. كان اللقاء في غرفة فليفل رقم (13) في المبنى الجديد التابع لجهاز أمن الدولة في ذلك الوقت. أُدخلت هناك، وكان يجلس فليفل مزهوّاً، وحوله يقف عدد من ضباط الجهاز، ومنهم عيسى النعيمي، وعدنان الظاعن، وبدر الفضالة. لم ينبسوا ببنت شفة، وكأنهم عبيد صغار أمام سيدهم الأحمق المتغطرس، فليفل! بادرني فليفل متحدثاً. وكالعادة، يوحي إليك بأنهم يعلمون كلّ شيء عنك، وعن نشاطك وماذا فعلت وتفعل مفصّلاً. قال لي: "هل تعلم أننا نعلم عنك كل شيء، ونعلم بعلاقتك بجماعة لندن (منصور الجمري وسعيد الشهابي وشيخ حمزة الديري)". لم أعلّق على كلامه، ولم أقدّم جواباً نافعاً، فأمر أحد صبيته، وهو الجلاد عدنان يوسف الظاعن، بتعليقي في أحد أبواب غرف مبنى الجهاز. قال لهم: "خذوه، علقوه في الباب، أريد ان أسمع صراخه حتى غرفتي". 

لكن، من ذلك (الهلفوت) الصامت الذي لم أتوقع أن يجمعني القدرُ به مجدّداً، وبعد أكثر من عشر سنوات، لأجده على هيئة مختلفة؛ منتفخاً، ضخم الجثة، ناعم الصوت، مقصّراً ثوبه، حليق اللحية، يرتدي نظارة سوداء لا تفارق وجهه أبداً، خشية أن ترمقه عيون ضحاياه أو تتعرّف على هويته!؟ كانت حنجرته تُصدر نشازاً طائفياً مزعجاً وهو يجلس في مكتبه، في الطابق الثاني من مبنى جهاز الأمن الوطني. تلك "الشنشنات" الطائفية التي لم أسمع مثلها من قبل؛ كانت سمةً بارزةً في شحصيته، ولا يمكن نسيانها أبداً. 

 
الشيخ المقداد
في ليلة الخامس عشر من أغسطس 2010م؛ لم يكن الجلاد (عيسى النعيمي) قد ظهر بعد. لكننا كنا على موعدٍ مفاجئ بإخفائنا في سجنٍ بعمق طابقين تحت الأرض في مبنى جهاز الأمن! كنتُ في زنزانة، والشيخ محمد حبيب المقداد في زنزانة أخرى. لم أره بعيني في تلك الليلة المشؤمة. فقط، تقاسمنا الحدث المرير. وفي زنزانة أخرى، كان الشيخ سعيد النوري. وفي الصّباح أدركنا وجود الدكتور عبد الجليل السنكيس، وذلك من صوت عكازيه اللذين شاطراه رحلة العذاب.

في تلك الليلة، وبعد أن اعتقلنا وزُجّ بنا في ذلك السجن المعزول، المليء بالعذاب النفسي، حيث لا شمس، ولا صوت، إلا أنّات المعذبين والسياط.. وبعد حوالي الساعة، وبينما كنتُ أقف معصوب العينين، مقيد اليدين من الخلف؛ سمعت صوتاً عالياً. كانت خطوات لعشرات الأشخاص وهم يدخلون الزنازين، التي كانت أصلا مفتوحة الأبواب.لحسن حظي، لم يدخل أولئك المجرمون المحترفون في الجريمة زنزانتي، ولكني سمعت أحدهم يصرخ في وجه الشيخ المقداد، وبلهجة قاسية مليئة بالصراخ العنيف، وتبين أنه رئيس جهاز الأمن الوطني السابق خليفة بن عبد الله الخليفة، الذي كان يصرخ في وجه المقداد بلهجة دارجة حادة قائلاً: "مقداد، مقداد، أنت تقول عن رئيس الوزراء بأنه (رازح) على صدر الشعب سبعة وثلاثين سنة"؟، وقال مواصلاً الصّراخ:"أنت تقول عن وزير الداخلية، وزير المسرحيات". 

لم أسمع صوت الشيخ المقداد أبداً تلك الليلة! انطلاقاً من تلك اللحظات، ومن هذا الموقف بالذّات، أدركتُ فوراً أننا سوف نتعرّض للتعذيب الممنهج وعلى يد كبار القوم، وأنّ لحظة انتقام الخليفيين منّا، بسبب ممانعتنا ورفضنا لمشروعهم الغادر المُسمّى ب(المشروع الإصلاحي) قد دقّت بدايتها! في الحقيقة، كنّا مجموعة من اللذين قاوموا مشروع الخليفيين، وسعينا بجدّ لتحطيم قواعد اللّجوء إلى المهادنة وإسقاطها، ورفضنا أن نكون جزءاً من الخديعة. ولذلك، كان من المتوقّع لدينا أن تتمّ تصفيتنا، وسجننا وتعذيبنا. وكنّا نعتبر ذلك ثمناً معلوماً لتلك المواقف وذلك الرفض. لقد حانت فعلاً جردة الحساب! قبيل الفجر بلحظات، تعرّضت للضرب واللكمات على يدي الجلاد المجرم عدنان يوسف الظاعن. لكنها كانت وجبة "تسخين" أولية أراد الظاعن - أو كما كان يُسمى في مدرسة الهداية الخليفة الثانوية حينما كان طالباً بعدنان (البلعة) - أن يذكرني فقط بطريقة التحقيق الذي أجراه معي قبل أكثر من عشر سنوات.

النعيمي يشرف على " تاز مامارت"** البحرين

في ظُهر اليوم الثاني للاعتقال، كان الإنهاك قد استولى علينا بسبب الوقوف الإجباري المتواصل. كانت أيدينا مقيّدة من الخلف، مع عاصبة العين الثقيلة، والتي أسميناها لاحقاً (العروس). بدون مقدّمات، وعلى نحوٍ مفاجئ، بدأت وجبات التعذيب! كان الصراخ يُسمع في زنزانتي بشكل واضح، وشكّل ذلك أسوأ ساعات التعذيب النفسي على الإطلاق. كنت أسمع جعفر الحسابي وهو يُعذّب على يدي مجموعة من القتلة، وبقيادة مساعد النعيمي، المدعو (جلال). ثم جاء دوري لأكون في غرفة التعذيب. اقتادوني من الزنزانة إلى غرفة أخرى في عنبر آخر في السجن نفسه. فور وصولي غرفة التعذيب، قيل لي:" لا تعتقد للحظة أننا سوف نرأف بك لأننا في شهر رمضان، فنحن غير صائمين"! لم أكن أشكّك في كلامهم، فقد كانت رائحة السجائر تملأ الغرفة فعلاً! بدأت حفلة التعذيب بالضرب المبرح، والركل، وهي طريقة جديدة لم أعهد مثلها في فترة التسعينات، كما أنها تنطوي على المذلّة، وتتخللها تهديدات بالاغتصاب والاعتداء الجنسي. ولكن شاء القدر أن أفقد الوعي نتيجة لضربةٍ قوية على الرأس، فلم يكملوا تلك الجلسة معي، واضطروا لسكب الماء البارد على وجهي ورأسي. 

بعد الظهر، وبعد أن يفرغوا من إعدادك النفسي عبر سلسلة التعذيب المتواصلة؛ يتم اقتيادك من السجن الواقع تحت الأرض، إلى مكتب الجلاد عيسى النعيمي في الطابق الثاني. أي الخروج من مبنى السّجن إلى المبنى الرّئيس الذي يتسم بالفخامة. عندما دخلت أول مرة إلى مكتبه، لم يتحدّث مدة من الزمن. كانت الغرفة بارده جداً. كانت هناك نافذة مستطيلة الشّكل تقع خلف مكتبه مباشرة. في الغرفة توجد مساحة كبيرة مهيّأة لجلسات التعذيب و"التعليق". حين نطق، قال لي:"ها خنجر، تعرف أنت وين؟ أنت ترى مو (ليس) في مركز شرطة أنت، في جهاز الأمن الوطني".

وتابع "نحن نعرف عنك كل شي، منذ عشر سنوات ونحن نحسب حتى أنفاسك ". ثم قال: "شوف هاي (انظر هذا) تقرير عنك من 200 صفحة و66 عنوان ". بعد عدة جلسات في غرفة التحقيق الخاصة به، استطعت أن أعرف هويته بكلّ دقة، وشاهدت وجهه مرات عديدة. حين بانت لي هوية عيسى حسان النعيمي؛ تذكّرتُ أننا في لجنة الشهداء وضحايا التعذيب قمنا بتوثيق حالات كثيرة لعدد من الضحايا الذين حقّق معهم وعذّبهم بوحشية في فترة التسعينات، وكانوا قد تعرّفوا على هويته آنذاك. وأذكر من تلك الحالات، معتقلي ما عرف ب "حزب الله البحرين". لذلك، لم يكن المشهد غريباً عليّ البتة، خصوصاً وأنه كان قد أشرف شخصيّاً على سجن "سافرة السري" في تلك الفترة، حيث كان المعتقلون يؤخذون إلى منزل خاص في منطقة سافرة، ويتم فيه التحقيق والتعذيب البشع، وقد وثّق عدد من المعتقلين للجنة الشهداء أساليبه في التعذيب، حيث كانوا يُعلقون من أيديهم عدة أيام داخل حمام ذلك المنزل " السجن السري".

 
سجن "تاز مامارت" المغربي
بالعودة إلى الجلاد النعيمي، يُكمل حديثه معي ويقول: " هنا المقداد والنوري ومحمد السهلاوي والسنكيس". ثم يكمل: "أنت سمعت خطاب جلالة الملك قبل ما يقبضون عليك، وعارف الأوامر اللّي عندنا"، " انتوا خلاص انتهيتوا، وراح تتمون في السجن"، " السياسية أمور اقليمية، انتوا ما تفهمون فيها". هنا بادرته بالرّد، وقلت له بأننا لم نفعل شيئاً يستحقّ هذا التعذيب، وأننا مارسنا حقّنا الطبيعي في حرية التعبير. فما كان منه إلا أنّ استشاط غضباً، وأخذ يتوعّدني ويُهدّدني قائلا بلهجة عامية: "شكلك تبيني أعاملك مثل الحيوان، ترى في ناس هني غيرك يتغوطون على أنفسهم، وأنت بعد بصيدك مثلهم، انتوا بلطجية، عملكم بلطجة"، " انت تابع إيران، وأهلك إيرانيين، ونحن نقدر نسحب منكم الجنسية" "أنت ونبيل رجب طائفين، الطائفية معشعشة في قلوبكم". هنا أيضاً قرّرت أن أرد عليه، فقلت له:"نحن لسنا طائفين، ونبيل رجب ليس طائفي، ولدينا علاقات مع إخوتنا السنة منذ الطفولة، ويجمعنا هم مشترك واحد، وهو الهمّ الوطني، أنتم منْ يزرع الطائفية بغية تحقيق أهداف سياسية"! لم يتمالك نفسه، وقام بصفعي، فسقطت على الأرض، وقال لي بلهجة بحرينية دارجة " لا تجلس اتفلسف لي لا اخليك (تتغوّط) على حالك".

سيلاحقك الضحايا حتى آخر رمق

لا تفارق مخيلتي مفارقةٌ عجيبة استوقفتني طويلاً، وتتمثل في أنّ مهندس التعذيب في قضيتنا ينتمي إلى عائلة (النعيمي)، كما أنّ أحد أعزّ أصدقائي ممن كان زميلاً لي بالمدرسة، ويجلس معي في المقعد نفسه في المرحلة الإعدادية هو من عائلة (النعيمي) أيضاً. هذه المفارقة قد تعكس طبيعة شعب البحرين المتماسك في نسيجه الوطني، قبل أن تتدخل اليد الخبيثة للحكم الخليفي، فتضرب أسفين الخلاف المذهبي في شوارع البحرين ومناطقه، وتملأ قلوب أهلها بالتناحر والتصارع المذهبي.

يعتقد الجلادون بأنهم قادرون على ملاحقة النشطاء وسحقهم، والتّنكيل بهم ساعة يشاؤون، وفي أيّ وقتٍ تسنح لهم الفرصة. ولكن الحقيقة عكس ذلك، فالضّحايا هم منْ يلاحق الجلاد، ويُحوّل حياته إلى ليل بهيم مشحون بالهواجس والاضطرابات. النعيمي، والظاعن، والغيث، وهزيم، والمناعي، ورئيس الجهاز السابق خليفة الخليفة.. وغيرهم من القتلة والمعذبين؛ هم في مرمى الملاحقة، ويعيشون الخوف والرعب نتيجة ما اقترفته أيديهم من جرائم، وهنا تكمن قوة التمسّك بالقصاص، وعدم التراجع عن الحق في كشف الحقيقة ومحاكمة الجناة، ومهما طال الزّمن وتقادمت السّنين.


*ناشط حقوقي مُلاحق في الدّاخل.

** سجن (تازمامارت) هو معتقل سري سابق وكان من بين أشهر السجون المغربية، التي عرفت نشاطا مكثفا خلال ما سمي بـسنوات الرصاص وكان يتميز بالسرية الكبيرة والتعذيب. يقع على أطراف الصحراء الشرقية المغربية. فتح في شهر أغسطس 1973 وأغلق بتاريخ 15 سبتمبر 1991، واستقبل في الأثناء العسكريين ممن شاركوا في المحاولتين الانقلابيتين: الصخيرات (1971) ومحاولة انقلاب أوفقير (1972). ثم معارضي النظام الملكي من أصحاب الرأي من يساريين خاصة. سجل عدد من قدامى مساجين (تازمامارت) مذكراتهم التي نشرت في كتب، ومن بينهم أحمد المرزوقي، في كتابه "الزنزانة 10" ومحمد الريس، "تازمامارت"، ومذكرات كابازال سجناء (تازمامارت) لصلاح حشاد، ورواية تلك العتمة الباهرة للطاهر بن جلون التي يسرد فيها مذكرات السجين عزيز بنبين.


التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus