«ماما».. أمّ الجرحى والمصابين

2013-02-15 - 9:53 ص


مرآة البحرين (خاص): من الخيمة الطّبية، حيث الحالات البسيطة التي لا تحتاج أكثرَ من حبة اسبرين، أو قياس ضغط عابر؛ إلى خزانة جانبية في أحد عنابر أجنحة مستشفى السلمانية، تجدها هنا وهناك، ليس في لباس التّمريض فحسب، بل تظهرُ في كلّ هذه الأماكن بوصفها شاهدة على جرائم الجيش ضد المصابين من الثوار والمتظاهرين.

تجدُ "ماما" نفسها مسؤولةً عن كلّ جرحٍ أو إصابة تنال من الثّوار. تُخرجُ بعض الحكايا من الذّاكرة، وتروي: "بدأتُ في الخيمة الطّبيّة. كنتُ أنهي المناوبة في المستشفى لأبدأ أخرى في الدّوار. استمرّ الأمر على هذه الحال حتّى يوم 14 مارس 2011م. يومها، هاجم البلطجيّة (الميليشا المدنيّة) ثلاث مناطق، وهي عالي وتوبلي والكورة. ما حدثَ كان شبيهاً بأفلام الرّعب. توالت الإصابات دون توقّف. اضطررتُ للبقاء في قسم الطّوارئ حتّى الخامسة صباحاً".
 
ليالي السّلمانيّة
 
تقفُ "ماما" عند زاويةٍ مفتوحة من الذّكريات المطبوعة بالدّماء. تضيف "ماما": "استيقظتُ على أنباء الهجوم على منطقة سترة. كانوا يمنعون الجميع من الدّخول. أخذنا نهاتفُ الممرّضات القاطنات في سترة لأجل التّوجه إلى المركز الصّحي هناك، بدلاً من مستشفى السّلمانيّة. نمتُ ليلةً أخرى في الطّوارئ أيضاً. عند حلول المساء، اكتست المستشفى بالمصابين القادمين من سترة. كان المشهد فوق الوصف. كان أكثر من الفظاعة. كنّا أربع ممرّضات. اضطررن للنّوم في مكان العمل، أسوةً بالطّاقم الطّبي من الرّجال".

عاشت البحرين يوماً ليس كمثله يوم. عند الفجر، تروي "ماما": "استيقظت ممرّضتان، وذهبتا إلى المنزل. اتصلت احداهن وأخبرتنا بأن الجيش يستعدّ للتّوجّه إلى دوّار اللؤلؤة. اسرعتُ باتجاه النّافذة. كان الدّخان الأسود يُغطّي السّماء". تقول "ماما" بأنها أصيبت بحالة من الهستيريا. بدأت رائحة الحرائق والغازات المسيلة للدّموع تتراكم على المستشفى. بادرتْ بسرعةٍ وقامت بتمرير شرائط لاصقة على النّوافذ لتمنع وصول الرّائحة.

ظلّت "ماما" في المستشفى مدّة ثلاثة أيام. ملابسها هي ذاتها. تعمل مناوبتين ونصف: نهار، أوّل ليل، وبعدها تجد نفسها مسلوبة القوّة، وتستسلم للنّوم دون إرادةٍ منها. كانت المستشفى تضمّ إضافة إلى الطّاقم الطّبي، المرضى والزّوار. الجميع كان مُحاصراً. أصبحت المسؤولية مضاعفة. تتذكرُ "ماما"، أنّ ما يُقارب 70% من المصابين هم من سترة وحدها. كانوا مصابين برصاص الشوزن والرّصاص الحي.

نظرة أخيرة
 
تتنهّد "ماما" قليلاً وهي تسترجع شريط الذّكريات. تتساءل مع نفسها عن السّبب الذي يجعلها تقوم بكلّ هذه المخاطرة، وتعريض حياتها وحرّيتها لفوّهة الجيش الذي بدأ يُنفّذ هجوماً لا يُوصف على المستشفى. تقول: "لا أجد سبباً لذلك سوى تلك النّظرة الأخيرة التي رمقني بها مريضي ذو السبعة عشر عاماً، وهو ملقى على الأرض، وفوق رأسه ثلاث فوّهات من البنادق. كان ذلك يومي الأخير في المستشفى. كنتُ أختبىء في خزانةٍ جانبيّة، وحين هجم مسلّحو الجيش وأخذوا يقتحمون الأجنحة؛ بقيتُ في مكاني أراقبهم. بمجرّد أن خرجت من المخبأ، انتقلت أسلحتهم من رأس مريضي إلى رأسي. رموني بسيلٍ من الأسئلة، وتركوني بعدها. يومها، خرجتُ من المستشفى. كنتُ أودّ أن أبقى من أجل مرضاي، ولكن الآن، وحيث أصبحتُ عاجزةً عن مساعدتهم؛ فإنّي فضّلت الخروج، حيث لا أملك شجاعة النّظر إلى عيونهم وهم يتلقّون العذاب والقتل".
 
الأم الصّغيرة
 
كانت دموعها تحرقُ جوانبها. صمتها الغاضب يملأ كيانها. أيامٌ قليلة مرّت على خروجها من المستشفى، وسرعان ما أخذت المبادرة. "أريد أن أترك بصمتي البيضاء على أجسادهم المثقوبة. أنْ أسهم في إنقاذ حياتهم" هكذا، أخذت حقيبتها الصّغيرة، وملأتها بالأدويّة الضّروريّة. ابتدأت عملها بالمقرّبين. ثم امتدّ إلى غيرهم. أصبح رقمها معروفاً لدى الكثيرين. كانت تُقبِل على كلّ مُصاب مثل الأم، وتسأله: "ماذا بك يا ولدي؟". اعتاد المصابون أن ينادونها ب"ماما". وهكذا، أصبحت أمّاً للثّوار، رغم عمرها الصّغير.
 
الطّريق إلى الشهيد علي الشّيخ
 
بعد رفع قانون السّلامة الوطنيّة، ازداد الحراكُ الثّوري في الشّارع. ازدادت وتيرة القمع في كلّ مكان. "كنّا نبقى في الشّارع في بعض الأحيان حتّى ساعات الفجر" تقول، وتضيف بأنّ "الأمر في أوّله كان يقتصرُ على مساعدة بعض الزّملاء، لكن امتدّ لاحقاً التعرّف على نظرائنا من المناطق الأخرى. كنّا ننتقل بين المناطق حسب الإصابات. بعد تنظيم دورات الاسعافات الأوّليّة وتخريج مسعفين، أسهم ذلك في التخفيف من الضغط، وبدأ المسعفون ينتشرون في أماكن الاحتجاجات، وأصبح عملنا يقتصر على الإصابات الخطيرة فقط".

لم تنقطع "الماما" عن التواجد في كلّ الساحات والميادين التي تشهد الاحتجاجات. كانت تفترضُ، سلفاً، أن هناك عملاً ينتظرها. تقول: "كأنّي أكفّر عن إحساسي بالذّنب لعدم وصولي إلى الشّهيد علي الشّيخ. ربّما لم يكن وصولي ليُنقذه، لكني لازلتُ أشعر بالذنب. كنتُ يومها أخيطُ رأساً نازفاً. اتصالات من سترة لا تتوقّف تحثّني على القدوم. في منتصف الطّريق إلى هناك، جاءني اتصال يحملُ نعي الشّهيد. أخذت أبكي بحرقةٍ وندم".

تختم "الماما" حديثها بالقول: "بعد كلّ ما حدث، رغم بشاعة ما مررنا به؛ فإني أكره اليأس، وأصرّ على مواجهته بالأمل. وهكذا أريد من الثوار أيضاً. أن يكونوا كذلك، أن يصرّوا على مطالبهم، وأن يواجهوا الظلم بالإصرار والتحدّي".


التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus