أم الشهيد محمود الجزيري: حضرّت المشموم والورد ولم يحضر جسد محمود بعد

2013-02-27 - 7:18 ص


مرآة البحرين (خاص): كان دخول جزيرة النبيه صالح مغامرة غير مأمونة، خاصة مع علمنا بنصب نقطة تفتيش عند مدخلها تمنع دخول كل من لا تشير بطاقة هويته إلى أنه من ساكني هذه المنطقة، نُصبت هذه النقطة منذ يوم الجمعة، بعد انتشار خير وفاة الشهيد محمود الجزيري. 

إلى الجزيرة..

النبيه صالح، جزيرة صغيرة المساحة، تبلغ 10.8 كيلومترات مربعة فقط، ذات مدخل وحيد متفرّع من جسر سترة، يقع مركز الشرطة عند المدخل تماماً من جهة الشرق، كما تضم الجزيرة مقر الكلية الملكية ونادي الضباط، ويسكن في بيوتها المستأثرة بالبحر، عدد من الضباط والمتنفذين. أما أهل الجزيرة الأصليون فعددهم قليل وبيوتهم صارت (بفعل الاستئثار والاستحواذ على الأراضي) محدودة. وربما هذا أحد أهم الأسباب التي تجعل أهل الشهيد محمود الجزيري يصرون على تشييع جثمانه في قرية الديه، حيث مسقط رأس عائلته، لعلمهم أن التشييع في الجزيرة سيكون محاصراً ومتحكّماً فيه، خاصة مع عدم وجود مدخل آخر إلى الجزيرة. ورغم تصريح مدير عام شرطة محافظة العاصمة بوزارة الداخلية اليوم الثلاثاء 26 فبراير بالتعهد بتسهيل الحركة المرورية والسماح للمواطنين بتشييع الشهيد، فإن أحداً لا يثق في قول يصدر من جهة تعودت الكذب والتزييف، فقط لتجميل وجهها القبيح أمام الرأي العام.

كانت وجهتنا إذن هي أم الشهيد محمود الجزيري (20 سنة)، وبدأت مغامرة الدخول غير الآمنة، وصلنا عند نقطة التفتيش، ثمة مصفّحة كبيرة في استقبالنا، لكن لم يوقفنا أحد، واصلنا طريقنا عبر الحواجز الأسمنتية التي بدت وكأنها حواجز تفصل بين بلد عدو وآخر، كان من حسن حظنا أن نقطة التفتيش غير مفعلة في ذلك الوقت، علمنا فيما بعد أن النقطة يتم تفعليها من وقت لآخر حسب مزاج الضابط المسؤول هناك، هكذا مررنا، ودخلنا الجزيرة.

عزاء لا يُشبه العزاء..

كانت الطرقات تخلو من الحركة والناس، ظلت عيوننا ترقب في كل الجهات حتى لمحنا امرأة أرشدتنا لبيت الشهيد. وعند باب البيت استقبلتنا مجموعة من النسوة كن يهممن بالتوجه إلى المأتم، حيث العزاء المفتوح على جثمان محتجز. كغرباء على الجزيرة، كان دخولنا يشكّل ما يُشبه الحدث بالنسبة لأهل الفقيد، لم يكن استقبالهن لنا عادياً، بل يعكس تقديراً لشخص جاء من خارج جزيرتهم ليواسيهم، ولربما كانوا يتأملون أن يكون هذا الغريب، شخص لديه القدرة على فعل شيء يطلق سراح جثمان فقيدهم. لم يكن في المأتم أحد من خارج الجزيرة، ليس سوى قريبات الشهيد، وبعض نسوة من الجيران. عزاء لا يشبه العزاء. عزاء ينتظر أن يبدأ عزاءه.

الأم الثكلى خرجت من المأتم تستقلبنا، لما قيل لها أن هناك من يريد الالتقاء بك، ورغم صعوبة حركتها، جاءت ترفع رجلها الثقيلة بالألم، وتحط قلبها الثقيل بالوجع، هل يحمل هذا القادم إليّ خبراً أنتظره منذ 5 أيام؟ هل سأزف ابني أخيراً؟ لم يكن الأمر كما أراد قلبها. 

لن تحتملوا وجعي..

عرفناها بأنفسنا، فكان جوابها: "هل يستطيع قلبكم تحمل ما سأحكيه، هل ستصمدون؟ تنهدت قبل أن تقول: أنا أم، وهذا ولدي في ثلاجة الموتى منذ خمسة أيام. هل يعرف أحد ماذا يعني ذلك لقلب أم؟ هل يعرف أحد ماذا يعني أن يكون ولدي المقتول بلا غسل ولا كفن خمسة أيام؟ هل هناك دين أو شرع يحلل ذلك؟ فكيف لقلبي أن يتحمّله؟ أريد ولدي. أريد أن يأتوا به عندي. أريد أن أراه. أريد أن أضمه وأشمه وأقبله. أريد أن أتمدد عند رأسه، أن أمسح على جرحه النازف. أريد أن أزفّه عريساً، لقد طلبت أن يحضروا لي ورداً ومشموماً لأزفه بنفسي، سأعمل له زفافا يليق بعرّيس عظيم، إنه أصغر أولادي، جميع أولادي تزوجوا ورأيت زفافهم، إلا هو، أريد ابني، إنه يناديني إليه"، قالت بعينها التي جفت من الدمع وتحجرت.

إنه محمود ابني..

منذ عصر 14 فبراير، عندما سمعت أم الشهيد بإصابة شابين، خفق قلبها، وقالت لابنتها: إنه هو محمود الذي أُصيب في إذنه. طلبت أن ترى صورة المصاب لكن ابنتها لم تفعل. تقول: تأكد لي من حينها أنه هو ثمرة قلبي محمود، فأنا أعرف أنه لا يتخلّف عن أي مسيرة وقد أصيب في أنحاء من جسده عدة مرات. 

في المساء أخبرتها ابنتها أنه هو. كمن أصيبت في قلبها. جاؤوا به بعد ساعات. عند رأسه جلست ترقب حركته وسكونه وحاله ووجعه. طوال الليل كان يرفع كفّاً وينزل أخرى، والأم تراقب حركته ولا تعرف لها تفسيراً غير الألم. يضغط على يدها أحياناً وكأنه يريد أن يشكي لها تكسّر جمجمته، فتنفطّر عجزاً. منذ ساعة الصباح الأولى أدرك الجميع أن الحالة لا تحتمل التأخير أكثر، هذا إن لم تكن قد تأخرت كثيراً، لا بد من أخذه إلى المستشفى وإن أُلقي القبض عليه. أخذوه لعيادة خاصة، لم تكن تلك العيادة مجهزة لاستقبال مثل تلك الحالات. لم يكن بُدّ من مستشفى السلمانية، وكان محمود قد بدأ صوته يضعف أكثر وأكثر، وقبل أن تنتهي العائلة من إجراءات المستشفى، كان قد وصلتهم الدعوة للتحقيق في مركز الشرطة.

كل شيء معلّق..

ثمانية أيام، بقت أم الشهيد ترى الموت يلازم ابنها الذي راح في غيبوبة بيضاء بعيدة. لم تكن تريد تصديق ذلك في البداية، لكن الطبيب أخبرهم أن نجاته من الموت نسبتها لا تتجاوز 2٪. بدأ قلب الأم يتهيأ: هل سيكون محمود الشهيد التالي؟! هل سأكون أم الشهيد التالية؟!

فجر الجمعة 22 نوفمبر، فاض محمود إلى السماء، وفاض الغضب في كل مكان. والأم التي فاض قلبها بوجع محمود، لم تُترك لتعيش حزنها بسلام في ذلك اليوم. أربع مرات تتوجه بنفسها إلى مركز الشرطة لإخراج أبنائها الذين تم توقيفهم واحداً وراء الآخر، أحدهم اعتقل لأنه التقط صورة لأخيه على سرير الشهادة، وآخرون أرادوا اعتقالهم عند نقطة التفتيش عند مدخل الجزيرة: لقد قتلتم ابني وتريدون اعتقال باقي أخوته؟!!

تعود أم محمود: أريد ابني، هو هناك في ثلاجة الموتى في وحشته وحده، وأنا هنا في ثلاجة الأحياء في وحشة غيابه عني، هو معلّق بجسده الذي لن يرتاح حتى يسكن بيته الأخير، وأنا معلّقة بجسده الممنوع عني ضمّه ولمّه، اجمعوني به لأرتاح، واتركوه يسكن قبره في سلام، ألم تكفكم حياته التي اختطفتموها منه ومني؟ ألم يكفكم؟

التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus