» رأي
الثورة في البحرين.. الأبعاد الفلسفية في ثورة 14 فبراير
يوسف مكي - 2013-04-01 - 7:07 ص
يوسف مكي*
لأن البعد السياسي هو الذي يطغى على الثورة، بحكم سيولة الواقع وسخونته، والصراع المباشر للمصالح، بين العديد من القوى الاجتماعية والطبقية، وبطبيعة الحال من ضمنها الإنتلجنسيا، الداخلة في الثورة من طرف، والمضادة للثورة من طرف آخر، نجد، إزاء البعد السياسي الطاغي، غيابًا شبه تام للبعد الفكري عمومًا، والفلسفي خصوصًا، كما يبدو الأمر.
وهذا ينطبق على ثورة 14 فبراير في البحرين كما ينطبق على بقية الثورات العربية الأخرى، حيث ظلت الخلفيات الفلسفية لثورات الربيع العربي، من تونس إلى مصر، إلى ليبيا، إلى اليمن، مرورًا بسوريا وانتهاءً بالبحرين، متواريةً عن الأنظار، لا بل تكاد تكون الخلفية الفلسفية في هذه الثورات غير موجودة، على الأقل في الظاهر.
ولكن من يتمعّن في ما وراء الواقع، وفيما وراء المواجهات بين الثوار وأجهزة القمع، واذا ما أخذنا الثورة في البحرين، سنجد أن الثورة/ الثورات لها خلفيتها الفلسفية بالتأكيد، وأن الصراع بين الشعب البحريني والنظام الحاكم بقدر ما هو سياسي، فهو بنفس المقدار صراع ذو بعد فلسفي، وإنْ لم يطفُ على السطح.
فقضية الثورة في البحرين مركبة ومتداخلة، أسوة بأي ثورة أخرى، ومرتبطة بجوانب لها أكثر من وجه وتفسير ومنظور، ومن بين هذه الجوانب المهمة، كما نعتقد، البعد الفلسفي المتواري، والذي نحاول إبرازه في هذه السطور.
فعندما يتعلق الحراك بمجموعة من القضايا والمفاهيم من قبيل المواطنة، والعدالة والحرية، والحقيقة، والتعددية، والطغيان، والاستبداد، وحقوق الإنسان، والعلاقة بين الحاكم والمحكوم، فهذه أيضًا على أهميتها السياسية هي قضايا فلسفية بامتياز، وهي كانت حاضرة بشكل أو بآخر في الحراك البحريني.
إن قضية المواطنة على سبيل المثال تمثل أحد أوجه الصراع الفلسفي بين النظام وثورة 14 فبراير، إنه صراع حول مفهومين مختلفين للمواطنة ومن هو المواطن؛ ففي حين يرى النظام الخليفي أن المواطن هو من يعطي ولاءه للشيوخ ولمن يسميهم بالقيادة، وأن مفهوم الوطن، من أرض وبشر، يختزل في حكامه، والولاء لهم وتبجيلهم، وكل ذلك هو معيار المواطنة، وأن كل من يخرج على الشيوخ/ القبيلة يخرج من دائرة الوطن والمواطنة، وأن الشيخ هو الذي يحدد من هو المواطن ومن هو غير المواطن، وهذا مفهوم ضيق واستبدادي، نجد بالمقابل، مفهومًا آخر يتمثل في أن الولاء للأرض، وللبشر على هذه الأرض، وحماية هذه الأرض والدفاع عنها متى ما تطلب الأمر ذلك، والمساواة بين المواطنين، وتكافؤ الفرص، وبغض النظر عن انتماءاتهم وأفكارهم وطوائفهم، يمثل جوهر مفهوم المواطنة، وأن الوطن هو ملك كل أبنائه، وليس ملكًا أو مزرعةً للقبيلة، أو لمجموعة دون أخرى. لذلك فالصراع يدور حول مفهومين فلسفيين عن المواطنة؛ مفهوم رجعى استبدادي يمثله النظام ويحاول تكريسه بالسياسة والأيبديولوجيا، وإذا عجز عن ذلك فبالقمع، ومفهوم آخر تقدمي تمثله الثورة، يتخذ أشكالًا سياسية في التعبير.
والصراع لا يدور حول السياسة فقط، بل يدور كذلك حول مفاهيم من قبيل الحكم العادل والحكم الجائر. أما أهم القضايا الفلسفية التي يدور حولها الصراع بين الحكم في البحرين وقوى الثورة فتبدو في أكثر تجلياتها في قضية الحقيقة. وهذه قضية قديمة قدم النظام الخليفي؛ فهذا النظام على امتداد أكثر من قرنين من الزمان، كان يتعامل مع من غزاهم من خلال حقيقته هو، حقيقته التي يراها هو، وليس من خلال مايراه الشعب، أي أن النظام لا يرى إلا نفسه/ حقيقته فقط، وهي التي يجب أن تسود، فالحقيقة هي التي يراها الشيوخ فقط، وعليه لا يوجد في هذا البلد غير الحقيقة التي يراها النظام – إنها حقيقة النظام، وما على الشعب إلا أن يسلّم للشيوخ بهذه الحقيقة، التي هي حقيقتهم، وكل من يعارض هذه الحقيقة سيصبح خارجًا عن الوطن والمواطنة ومشكوك في ولائه.
ولكن هذه الحقيقة بالتأكيد ليست حقيقة الشعب البحريني، الذي يرى حقيقة أخرى، أو حقيقة غير حقيقة حكامه ومعاكسة لهم، وثورة 14 فبراير أبانت هذه الحقيقة بشكلٍ لا لبس فيه، وأوصلت للنظام رسالة بأن في هذا البلد حقيقة أخرى أكثر عقلانية من حقيقة النظام: إنها حقيقة الشعب وقواه الحية، وأن امتلاك وتقرير الحقيقة ليس شأنًا يخص النظام فقط بل يخص آخرين، لا بل هناك تعدد في رؤية الحقيقة، وعلى النظام أن يقر بذلك، ومن ضمن ذلك، الحقيقة التي يقررها الشعب، فبدلًا من أحادية الحقيقة التي يكرسها النظام، خدمة لمصالح القبيلة والموالين، هناك حقيقة أخرى مخالفة لحقيقة النظام، أي تعددية الحقيقة وليس وحدانيتها كما يريد النظام.
وتعددية الحقيقة تأتي ضمن مفهوم أشمل هو مفهوم التعددية، ولأن النظام لا يعترف بالتعددية أصلًا، فهو لا يعترف بتعددية الحقيقة في المجتمع البحريني النابعة من تعدد قواه وحركاته السياسية والاجتماعية والثقافية... إلخ.
وهكذا فإن ثورة 14 فبراير أبرزت إلى السطح ذلك الصراع الخفي القائم بين حقيقتين متناقضتين -وهذه قضية فلسفية حتى لو تجلت بشكل سياسي- إحداهما تجر الحاضر والمستقبل إلى الماضي، وهي حقيقة النظام بالمعنى الشامل (الفلسفي السياسي الفكري والثقافي الاجتماعي) التي يحاول جاهدًا فرضها بالعنف على الشعب، والأخرى حقيقة واعدة تحاول تحرير الحاضر من قيود الماضي باتجاه المستقبل، إنها حقيقة الثورة.
ولا تقف الأبعاد الفلسفية في الثورة البحرينية عند كسر حقيقة النظام، إنما تتجاوز ذلك لتبرز قضايا فلسفية شائكة ومحرجة للنظام مثل قضية الحرية والتي تمثل محور الصراع في البحرين مع النظام الحاكم، ذلك أن الحرية، من منظور هذا النظام، منحة يعطيها من يشاء ويمنعها عمن يشاء، ويعطيها متى شاء ويلغيها متى شاء، أنها شيء من ممتلكاته الحصرية، فهي مكرمة يُنعِم بها النظام على رعاياه، وليس من حق الشعب أن ينعم بها أو أنها حق أصيل، إذ الشيوخ هم من يقررون ذلك وهم الذين يعرفون مصلحة الشعب في الحرية أو عدمها. إنه منطق احتكار الحرية، أسوة باحتكار السلطة والثروة والبوليس.
في المقابل، ما خروج الشعب البحريني في 14 فبراير 2011 إلا ليؤكد رفضه لمفهوم النظام الاستبدادي للحرية، وأن الحرية تنتزع وتستحق أن يدفع الشعب في سبيلها الغالي والنفيس، وأنها كلٌّ لا يتجزأ، وأن مفهوم الحرية لدى الثورة غيره لدى النظام، وهي حق أصيل وليست منّة من النظام، ولا مكرمة.
ولا يختلف الأمر فيما يتعلق بقضايا العدالة وحقوق الإنسان وإزالة الاستبداد والكرامة الإنسانية، كلها قضايا ذات أبعاد فلسفية كانت تمثّل خلفية للحراك الشعبي، مع أنها تجلّت في معظم الأحيان بواجهة سياسية مباشرة، إلا أنها في العمق قضايا فلسفية وجودية إنسانية استطاع الشعب البحريني، وإنْ لم يكن واعٍ بها تمام الوعي، أن يعبّر عنها بطريقته بالضد من فلسفة النظام، ويطرحها كمشروع سياسي/ فكري شامل يخرج البحرين من حالة الاستبداد التي يعيشها شعب البحرين كحالة سياسية وحالة فكرية مؤطرة بأيديولوجيا قبلية وطائفية مفروضة من النظام، عن طريق القهر والعنف العاري، وهي الحالة التي يترتّب عليها من نتائج كارثية لحاضر ومستقبل البحرين.
قد لا يكون هناك منظّرون لفلسفة الثورة في البحرين، لكنها، كحركة اجتماعية ثورية، لا تخلو بالتأكيد من الأبعاد الفلسفية المؤطّرة لها بشكل أو بآخر ضمنًا أو صراحة، كما سيترتب عليها نتائج فلسفية في المستقبل، ستكون قضايا للتحليل التنظيري.
هذا ما تعلّمنا إيّاه الحركات الثورية منذ ثورة سبارتكوس في روما، مرورًا بثورة القرامطة في البحرين، وليس انتهاءً بالثورة الأمريكية والفرنسية والروسية والصينية والفيتنامية والكوبية والإيرانية والتونسية والمصرية والسورية واليمنية. فكلها ثورات كان لها خلفيات فلسفية، معلنة أو غير معلنة، ولها نتائج فلسفية تتعلّق بالقضايا التي أشرنا إلى بعضها فيما سبق، أثارت كثيرًا من السجال والتنظير.
قد لا يكون الوقت مناسبًا الآن للتنظير والتحليل للخلفيات والنتائج الفلسفية للثورة البحرينية، بحكم حرارة الحدث وسيولة الأحداث وحجم الضحايا، ذلك أن التنظير يحتاج إلى عقلية باردة إلى حدٍّ ما، لكن ذلك لا يمنع ولا يلغي أهمية هذا الجانب في مقاربة هذه الثورة لاستيعاب الدروس والعبر، خاصّةً على صعيد قيادات الثورة، ومثقّفيها، ومفكّريها، والحريصين على استمرارها. فقط هنا أردنا أن ننبه إلى جانب نعتقد أنه لا يقل أهمية من البعد السياسي للثورة، فالثورة بالنتيجة هي حركة شاملة تبدأ بالسياسة، ولكن لا تنتهي عندها، وكما أن لها إطارها السياسي، فلها أيضا إطارها الفلسفي والثقافي عمومًا.
*باحث بحريني في علم الاجتماع.