الشيخ علي الجدحفصي: الوقار الأبيض في مواجهة سحب الموت

2013-04-09 - 6:46 ص


مرآة البحرين (خاص): سيُلْفِتُكَ الشيخ الوقور، وهو يشارك بهذه الكثافة، رغم عمره المتقدّم (65 عاماً)، في المسيرات التي يمكن وصفها بالخطرة لأنها غير مخطر عنها ويتهددها القمع. سيلفتك أكثر، في الصور ومقاطع الفيديو التي تبثها وكالات الأنباء وشبكات التواصل الاجتماعي، تُظهر الشيخ (علي بن أحمد الجدحفصي) بلحيته (البيضاء) الكثيفة، وهو محمول بين أيدي الشباب مختنقاً بفعل الغازات السامة، أو ستشاهده عابراً بجبته الدينية وعمامته (البيضاء أيضاً)، بإعياء مختنق، وسط سحابة موت (بيضاء أخرى) من الغازات هنا أو هناك. 

بياضات الصمود والقمع..

بين هذه البياضات الثلاثة يتجسّد نموذج الشيخ الجدحفصي، بياض لحيته التي راكمت الصمود، وبياض عمامته التي اختارت السلمية لا الاستسلام، وبياض سحب الموت، الأسود فعلها، والتي يُراد بها خنق صمود هذا الشعب وسلميته. فكأن بياض الجدحفصي الستيني المعمّمّ يعلنها باسم الشعب في كل مرة: هيهااااات. 

 
لن تَعجب عندما تراه بعد ساعات قليلة من اختناقه، وهو يعاود الخروج في مسيرة أخرى بذات اللحية البيضاء والعمامة البيضاء أيضاً وأيضاً. 

عند رأس عقيل عبد المحسن (20 سنة)، الذي أصيب بقنبلة صوتية من مسافة أقل من متر استهدفت حياته، وهشمت الجزء الأسفل من وجهه، يقف الشيخ الجدحفصي واضعاً يده على رأس الفتى: "زينة الرجل المحارب هي الجراح على جسمه فافتخر يا عقيل، ولا تنس أن تنقشها على جسدك" كذلك يعاود باقي المصابين. وجنب عوائل الشهداء يقف ملهماً ومحفزًا قبل انطلاق أية مسيرة: "دربنا ليس مُعبداً بالياسمين والورود، هو درب الشوك وطريق الابتلاء. طريقنا وعرٌ لنصلح وضعا فاسدًا". حالما ينتهي من كلماته التي تفتتح المسيرة، تبدأ سحب الموت فعلها القذر في المكان والناس.

ستتذكره في دوار اللؤلؤة المكان الذي ضم وهج ثورة 14 فبراير، وهو يؤم المصلين هناك، لم يغادره إلا حين تحول دوار اللؤلؤة الى قطن من الغاز الخانق.

الأشهر الأولى لدخول قوات "درع الجزيرة" وإعلان حالة الطوارئ وما صاحبها من إطلاق يد الرعب والبطش، لم تمنعه من الاستمرار في خطبه الحماسية في صلاة الجمعة، بل يرافقها بمسيرات يقودها بعد الصلاة -وسط هذا الوضع المخيف- من المسجد إلى داخل المنطقة، تعلن موقفها الرافض للذل والخنوع والاستبداد، ثم تتفرّق بسلام. كان يرى ذلك واجبًا وطنياً وشرعياً وقضية أمة يتحمل مسؤليتها الناس وشيوخ الدين خاصة.  

من حركة القوميين العرب بدأنا

 
للشيخ الجدحفصي حساب قديم لم ينته مع النظام، مطلعه منذ ستينيات القرن الماضي، بقي يتراكم في بنك الاستبداد، ويكبر الحساب كل يوم. يروي: "في الستينيات كانت البحرين ترزح تحت الاستعمار البريطاني، كنت حينها أفنديًا وعضوا في حركة القوميين العرب، أقود دراجتي الهوائية عبر جسر المحرق للتظاهر مع أهلها من الرجال والنساء من الطائفتين الكريمتين، تتقدمهم عوائل العبيدلي والعليوات والمرزوق وسيد عدنان. بعض المشاهد لفداحتها تعلق في الذاكرة، كنت حينها طالبًا في المرحلة الثانوية عندما خرجنا للتظاهر حاملين أعلام مصر وفلسطين فقط، فأحاطتنا الشرطة البريطانية والمرتزقة من النيباليين واليمنيين في الحرم المدرسي وقاموا بتهديدنا بعدم الخروج والا فمصيرنا الرصاص. النتيجة إصابات كثيرة بطلقات الرصاص، تحول فناء المدرسة لساحة دم. في تلك الفترة كانت السياسة ممنوعة أيضا لكنها ليست بالقدر الذي يتم الآن، المساواة في الظلم عدل، والفساد لم يكن ناخرًا بشكله الفاقع كما الآن" يتساءل الشيخ الجدحفصي هل تغيرت حياتنا بعد الاستقلال ؟! في الواقع تغلغل الفساد في كل المفاصل بشكل أشد لذا ظلت البحرين تنتفض كل مرة من أجل استقلالها الحقيقي. 

بطريقته المتأنية في الحديث يكمل الشيخ الستيني: بعد انتهاء الاستعمار زادت الرقابة والتضييق على حركة القوميين العرب، فأضحت النشرات محدودة بسبب وجود آلة كاتبة واحدة وصعوبة اقتناء ثانية لأنها تخضع لرقابة الأجهزة الأمنية، صرنا نلجأ إلى الكتابة بخط اليد على ورق الكربون لاستنساخ النشرات، ومن ثم رميها من نافذة البيوت التي كانت مشغولة آنذاك بتأمين حياتها البسيطة وشيوخها المنشغلة بالعبادات. يستطرد: ذقنا شظف العيش، كنا عائلة مكونة من ولدين وخمس بنات، أكملتُ الثانوية وعملتُ مدرساً لمواد مختلفة، إلا أني كنت أكثر ميلا إلى اللغة العربية، تزوجت في الـ 19 من عمري، بقيت مدرسا حتى قررت استكمال دراستي الدينية في حوزة النجف الأشرف بالعراق وبقيت فيها حوالي 10 أعوام، عدت إلى البحرين بعدما زاد تضييق النظام البعثي على شيوخ الدين في الحوزات الدينية".

 
يستذكر معلقًا: "في انتفاضة التسعينات اعتقلت، وبعد شهرين أطلق سراحي مع أصحاب المبادرة آنذاك المرحوم الشيخ الجمري والأستاذ عبد الوهاب حسين والأستاذ حسن مشيمع. حينها أرسل مبعوث عن السلطة لداخل السجن وهو العقيد (عادل فليفل) للاتفاق على تهدئة الشارع ومن ثم تقديم المطالب للأمير الراحل الشيخ عيسى بن سلمان، وما إن خفت صوت الشارع حتى نكص الحكم عن وعوده ليعود الشارع بدوره هادرًا مرة أخرى، فأعيد اعتقالنا، فكان نصيبي من السنين أربعًا. قضيت الأولى في السجن الانفرادي دون أن أحظى ولو بزيارة واحدة للأهل. برودة المنفى الفردي أنتجت مؤلفات تحولت إلى كتب فيما بعد، وبعد انقضاء السنة الأولى نُقلت لأنضم إلى المجموعة الأولى حتى أطلق سراحي.

يكمل معقبًا: لم تتوقف التهديدات عند خروجي من السجن، بعد كل خطبة جمعة تصلني إحضارية للمثول في مركز الشرطة، يتم فيها تهديدي بالتوقف عن الحديث في السياسة، واستمر الحال فترة حتى مُنعت من الذهاب للمسجد. لم تعيني الحيلة فقمت بأداء صلاة الجماعة في بيتي لمدة سبعة أشهر، عدت ثانية لإلقاء الخطب السياسية في المسجد غير آبه، فسكتوا عني ربما لأن الأوضاع هدأت قليلآً، ليكون حصاد انتفاضة التسعينات ميثاق العمل الوطني. يُتابع: "لم أوقع على ميثاق العمل الوطني، لم أكن لأصدقه، بهرجة الحلف والقسم والوعود لم تكن مُجدية في تغيير قناعتي بمن في الحُكم. 

 
يتعرّض الشيخ الجدحفصي للاستهداف، تتم مداهمة بيته والبيوت المجاورة في إبريل 2011 للبحث عن مطلوبين، ويتم تكسير بيته وتخريبه، كما يُستدعى للمثول بين يدي النيابة العامة بتهمة التحريض على كراهية النظام. موقنٌ الجدحفصي أن النصر آت لا محالة، لكن ثمة تحذير يحمله إلى الناس: "لو اختلفنا وشككنا في بعضنا البعض، سيتأخر النصر، ولهذا يجب أن لا ننسى الهدف الأسمى من ثورتنا. فداحة يوم من الانتهاكات في ثورة 14 فبراير تعادل شهرًا من انتفاضة التسعينيات، خلال عامين خلفت هذه الثورة أكثر من 120 شهيدًا مقابل 45 شهيدًا طوال انتفاضة التسعينيات التي امتدت لما يُقارب 4 سنوات".

ربما لن تجد الكثير من الشخصيات المعروفة الداعمة علناً لثوار 14 فبراير، أو رجال دين يتصدرون مسيراتها كما هو الشيخ الجدحفصي، وربما لن تجد بسهولة من هم في مثل عمره يشاركون في مسيرات لها كل هذه الكلفة الباهظة، حيث تصعب الحركة وتكبر مخاطر الاعتقال أو الإصابات. لكن الأكيد أن مواجهة القمع بشكل يومي لأكثر من عامين، شجاعة لن يمتلكها الكثير وأقساها للمطاردين الذين اختاروا المخاطرة بالحياة الآمنة خوفًا على الثورة من أن تخبت أو تنطفئ أحلامها. 


التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus