علي فخراوي في شهادته: ذهب كريم فخراوي إلى ما يليق به، وهو يقول، لا يُخيفني تعذيبهم

2013-04-11 - 7:18 ص


مرآة البحرين (خاص): مات والدهما مبكرًا بعد صراعٍ قاسٍ مع المرض، غادر طفلين توأمين؛ محمد وعلي، وهما للتو تخطيا السنة الثانية من عتبات عمرهما، فكان عمّهما كريم فخراوي والدهما الذي لم يتفتّح وعيهما على أبٍ غيره، وكانا ولديه العزيزين على قلبه، ويده اليمنى في أعماله ومشاريعه، ومديري أعماله، إن صحّ التعبير.  
(مرآة البحرين) في الذكرى الثانية للشهادة، التقت علي أحمد فخراوي، حدّثها عن ذكرياته هو وأخيه محمد مع الشهيد فخراوي وعلاقتهما الخاصّة به، كما حدّثها عن مكانة الشهيد كريم في عائلته، وعند الأصدقاء ورجال الأعمال الذين عرفوه داخل البحرين وخارجها، وعن أخلاقه التي لا يختلف عليها من عرفه من قريبٍ أو بعيد، وعن علاقته المثالية مع والدته، وعن آخر لقاءٍ جمعهما به قبل أن يُسلّم نفسه للموت، وعن نصيحته الأخيرة، وعن ذهابه برجليه للشهادة..

العـــــمُّ الأبّ..

 
"لا نذكر شيئًا عن والدي، المرض غيّبه عنّا قبل أن نعي ما يدور حولنا، كان في سفرٍ مستمر لعلاجٍ لم ينته حتى أخذه إلى الموت، وعمي هو رفيق رحلته الشاقة تلك، وقبلها هو رفيقه وصديقه الأقرب إلى قلبه ونفسه" يقول علي، ثم يضيف "ولأن علاقة والدي بعمي عبد الكريم مميزة جدًا، لذلك أوصى بأن يقوم عمّي بتربيتنا بعد وفاته. عمّي عبد الكريم صار هو والدنا، بل إننا عرفنا أبي من خلال عمي، كان يتكلّم عنه بحبٍّ شديد، ويحرص أن يُذكّرنا دائمًا بأنّ كل ما حدث ويحدث في حياته هو بفضل والدي. لا نعرف ما إذا كان ما يقوله عمي صحيحًا تمامًا في هذا، فهو دائمًا ينسب الفضل إلى الآخرين في كلِّ شيء بسبب تواضعه الشديد، وهي علامة بارزة في شخصيته". 

يكمل علي: "بعد وفاة والدي بقينا نعيش مع والدتنا، لم تنقصنا المادة فحالتنا المادية جيّدة، لكن كنّا بحاجة إلى قوّة الأب، واحتوائه، وتربيته، ورعايته، وحضوره فينا، وهذا ما أعطانا إياه عمّنا الشهيد تحديدًا. لم يكن متزّوجًا حينها لهذا كان يزورنا بشكلٍ يومي، يأخذنا معه إلى بيت جدّتي حيث الجميع يُدلّلنا بشكلٍ خاص، ثم يأخذنا إلى حديقة الألعاب أو إلى أحد المطاعم، يتابع أمورنا الخاصّة والعامّة، يُصحّح أخطاءنا، ويُراعي مراحل نضجنا وأعمارنا، كان حريصًا أن يتواجد معنا في كل مرحلة، وأن تكون له بصمته في حياتنا، لديه نَفَسٌ طويل جدًا معنا. في بيت جدتي يسكن عمي الطابق الثاني، ننام معه ليالي الإجازات، ففي ليلة الجمعة يأخذنا معه إلى المأتم، ثم نعود ونتناول العشاء، ويأخذنا الكلام حتى ننام، ثم نذهب معه لصلاة الجمعة، ونقضي يوم الجمعة في بيت جدتي ونعود إلى البيت ليلًا".

"عندما سافرنا، بتشجيعٍ منه، إلى الدراسة في بريطانيا، كان يحرص على أن يزورنا كل عام، وعندما يأتي نذهب لنسكن معه في الفندق نفسه الذي يسكن فيه، وعندما يفارقنا كانت دموعه تغلبه، وهو الذي لا يبكي بسهولة أبدًا، ونحن نغادر دون أن نلتفت للوراء، كي لا تفضحنا دموعنا". 

مكتبة فخراوي..

 
"منذ كنا أطفالًا لا تتجاوز أعمارنا 11 عامًا شجعنا عمي على القراءة، يهتمّ باختيار الكتب التي تناسب أعمارنا وتغذّي تربيتنا. يعطينا الكتب لنقرأها ثم يطلب منّا عمل تلخيصٍ لها. يأخذنا معه إلى المأتم ويقول لنا ركّزوا فيما يقوله الخطيب، ثم يسألنا عمّا سمعناه بعد الخروج منه. كان البُعد الأخلاقي والتربوي من أهم الجوانب عنده، لهذا أكثر الكتب التي طبعتها مكتبة فخراوي هي معنيّة بهذا الجانب بشكلٍ أخص. في فترةٍ ما تأثّرنا بأفكار خطيبٍ مشهور له محاضرات أخلاقية وتربوية هامة، وصرنا شديدي التعلق به حتى حفظنا محاضراته لفرط إدماننا على الاستماع لتسجيلاته، وكان لهذا الخطيب موقفٌ هجومي من المرأة، عندما لاحظ عمي تأثّرنا بهذا الجانب، أحضر لنا كتابين عن مكانة المرأة في الإسلام، وطلب منا قراءتهما، وبهذا جعَلَنا نغيّر طريقة تفكيرنا بكل هدوء".

"في مكتبة فخراوي نشأت علاقتنا بالكتب والقراءة منذ الطفولة، هناك نتصرّف بكل حرية وأريحية. صرنا جزءًا من المكتبة وعاصرناها وهي تكبر يومًا بعد يوم. أوّل مكانها في المنامة، قبل أن يفتتح لها فرعين آخرين في جدحفص والسهلة. كبرنا وكبرت معنا تطلّعاتنا وشعرنا بأهمية أن تتّسع المكتبة في المكان وفي تنويعات الكتب والتوجّهات والأفكار: الثقافة، والأخلاق، والدين، والتربية، والاجتماع، والتاريخ، والجغرافيا، باللغتين العربية والإنجليزية. هكذا كبُرت المكتبة واتسعت شيئًا فشيئًا. لقد بقيتْ مكتبة فخراوي مصدر فخر دائم عند الشهيد، وكان يُفضّل أن ينسب لمكتبة فخراوي أكثر من أي نشاط آخر من أنشطته التجارية. فقد ظلّت مكتبة فخراوي رافدًا من روافد الحراك الثقافي في البحرين وفي الخليج أيضًا، وبقيت تُمثّل البحرين في معارض الكتاب داخل البحرين وخارجها".

"عندما عدنا من دراستنا في بريطانيا، كان عمي بدأ يعمل في المقاولات، عملنا أنا وأخي محمد على متابعة المكتبة ورعايتها. لقد عملنا مع عمي في كل مشاريعه، حتى صرنا يده اليمنى. بعد انتهاء دراستي الجامعية قلتُ لعمي أنّي أرغب في العمل في البنك، قال اذهب واعمل لتكتسب الخبرة ثم عُد لي. عملتُ في البنك الأهلي لمدّة عامين، ثم عدتُ مُحمَّلًا بالخبرة، وصرنا نعمل معه في إدارة جميع مشاريعه، وهو من ناحيته يحرص أن يُشِيد بدورنا في تطوير العمل، فقد كنا نلعب دورًا في العلاقات ونفوز بمُناقصات البناء والإنشاء. في السنوات الأخيرة صار يُردّد لنا: منذ 40 عامًا وأنا أعمل بلا كللٍ أو ملل، مُنذُ السابعة من عمري، الآن أريد أن أرتاح، وأريدكم أن تديروا العمل عني".

علاقات فخراوي..

 
"كصاحب مكتبة، من الطبيعي أن تكون لفخراوي علاقات واسعة، ليس في داخل البحرين فقط، بل خارجها، في مصر وإيران ولبنان وكل المطابع ودور النشر الموجودة في هذه البلدان، وأيضًا بعض الدول الأوروبية. حاز عمي على احترام الجميع وتقديرهم، ونحن الآن أينما نذهب يستقبلوننا بالأحضان ويبكون خسارة شخصٍ مثل كريم فخراوي. في بيروت قال لي أحد أصحاب دور النشر أكثر ما آلمني في أحداث البحرين هو شهادة عمِّك، كريم فخراوي خسارة لا تُعوَّض للبحرين. كان يُميِّز فخراوي تسامحه مع الجميع، يكره الخصومات ويؤمن أنّ أفضل ما تفعله في حال استمرار الخلاف والخصومة هو أن يمضي كلُّ واحدٍ في طريقه المُختلف، بدلًا من البقاء في الخصومة أبدًا. لديه علاقات واسعة مع جميع الأطياف على اختلاف توجّهاتها داخل البحرين وخارجها، وله احترامه الخاص وتقديره بينها، كانت معظم علاقاته مع الدينيين بحكم توجّهه الديني، وعلاقاته مع السياسيين محدودة. لم يكن فخراوي يرغب في العمل السياسي، ورغم الدعوات التي كان يتلقّاها من مُهتمين بترشيحه إلى المجلس النيابي، إلا أنّه لم يقبل، ويرى أن هناك كثيرين يعملون على الجوانب السياسية والاجتماعية، لكنّ الجانب الثقافي ليس كذلك، لهذا يرى أن مكانه الأنسب هو هذا".

بعد 14 فبراير..

يقول علي: "مثل كل البحرينيين الذين تغيّرت حياتهم بعد 14 فبراير، كان عمي. لم يكن فخراوي بعيدًا يومًا عن مطالب الشارع واحتياجاته، لهذا خرج مع الناس مؤمنًا بحقهم في المطالبة بالإصلاح منذ 14 فبراير، وأصابته طلقة في رجله".

"على قناة وصال، نُشرت مقاطع فيديو تمّ تصويرها بطريقة مخابراتية من داخل مكتبة فخراوي، وتمّ الترويج أن صاحب هذه المكتبة خطر لأنه خلال الـ 25 سنة الأخيرة عملت هذه المكتبة على نشر ثقافة وفكر ولاية الفقيه بين الناس، وكان ذلك مُقدّمةً لاستهدافه المباشر. ولأنه لم يكن شخصًا عاديًا، بل رجل أعمال، فاستهدافه كان بحاجة إلى مُقدّمات يُسوّقون لها في ماكينتهم الإعلامية. وبعد ضرب الدوار مباشرةً، استُهدفت صحيفة الوسط، وهو أحد مؤسِّسيها، تمّ توقيف الصحيفة الساعة الحادية عشرة ليلا، ومداهمة بيته عند الساعة الحادية عشرة والنصف. كان اسمه مطروحًا في التحقيقات، لم يُربط بتهمة معينة لكنّهم يسألون المُحقَّق معهم عن علاقاته وتحرّكاته وتوجّهاته".

"ضُرب الدوار، وبدأت حملة الاعتقالات في الليلة نفسها، لم نكن نعرف مصيرنا، ونعلم أننا مستهدفون. التقينا في اليوم التالي نحن الثلاثة؛ عمي وأخي محمد وأنا، تباحثنا الموضوع. قال عمي: علينا أن نتوزّع، بحيث يكون كلّ واحدٍ منا في مكانٍ مُختلف، لكي لا يُقبض علينا جميعًا مرّةً واحدة، وأن نبقى كذلك حتى تتضح الصورة. اتفقنا على ذلك، وبالفعل داهموا شقتي وشقة أخي محمد في منتصف الليل بعد 3 أيام. اختفينا بعدها مباشرة، ولم يعلم أحد بمكاننا حتى زوجاتنا، لكن عمي رفض الاختفاء معنا وقال: لن أختبئ، وعندما يطلبونني سأذهب لهم مع إصراره وتأكيده أن نبقى مختبئين ولا نسلم أنفسنا حتى بعد القبض عليه".

اللقاء الأخير..

 
يتذكّر علي: "كان الوقت ظهرًا، وكان معي أخي في المكان الذي اختبأتُ فيه، فُتح الباب، وأطل بوجهه باسمًا كي يفاجئنا، ثم دخل علينا بكل بشاشته المعتادة، احتضن أحدُنا الآخر، وقبّلنا بعضنا البعض. كانت قد مرّت أيام لم نرَ فيها بعضنا البعض، تجنّب الحضور إلينا خشية أن يكون مُراقبًا. جلس بيننا بتواضعه المعروف، وقال: أفتخر أنكم أبنائي، لقد خشيتُ أن أحضر وأراكم في حالٍ سيّء، لكنكم تبدون لي العكس، لقد جعلتموني أستمدّ منكم القوة. وبالطبع لم يكن كلامه هذا صحيحًا، العكس تمامًا هو الصحيح، فقوّته وبشاشته وحضوره هي التي أمدّتنا بالقوة".

"في هذه الجلسة قدّم لنا نصيحته الأخيرة، وحكمته، قال: الإنسان في هذه المواقف الصعبة يتوكّل على الله فقط، إذا فعلتم ذلك ثقوا أنه لن يحدث لكم شيء، شرط أن تصبروا وتتوكلوا. كنّا نعلم أنه بالنسبة لعمّي لم تكن هناك مشكلة في الثقة والتوكّل. طوال عمره كان متوكلًا، حتى عندما تشتّد عليه الأزمات. كان يهدّئنا ويقول: الله موجود. في أوقاتٍ كثيرة، خارج السياسة، هناك مواقف تعرّضنا فيها لمشاكل وقلقٍ شديد، كان يقول لنا ذلك، نذهب إلى بيوتنا ولا ننام، ويذهب إلى بيته وينام، وفي صباح اليوم التالي نُفاجأ بتغييرات لم نتوقّعها، فيقول لنا: ألم أقل لكم أن الله موجود".

"ثم راح يكمل لنا نصيحته: في بداية الثمانيات، كنّا شبابًا، ووفق الجو العام حينها، نُوزِّع المنشورات، من الطبيعي عندما نعود البيت أن نتوقّع أن يأتوا لاعتقالنا. كنّا ننام أنا ووالدكم في نفس الغرفة. في إحدى الليالي سمعنا عند الساعة العاشرة طَرْقًا على الباب. قلنا لبعضنا: أتوا لأخذنا. ذهبنا فوق سطح البيت لنرى من القادم، فلم نتمكّن من الرؤية. دُقّ الجرس مرتين ولم نفتح. صباحًا، عندما فتحتُ الباب رأيتُ كيس حليب عند الباب. كنتُ اشتريته ونسيته فوق السيارة، وعندما رآه الجار وضعه عند الباب. ثم أكمل قائلًا: الإحساس الذي يأتيك وقت الخوف والقلق ليس بالضرورة أن يكون صحيحًا، الخوف يجعلك تتصوّر أنّ الأمور كلها عليك".

"ثم أضاف: في فترةٍ ما، كنّا حين نوشك على النوم أنا ووالدكما، نرى على الجدار جسمًا كبيرًا يتحرّك، كنّا نخاف، ظنناه لفترة شيئًا من الجن، اكتشفنا فيما بعد أنه نملٌ يمشي على الطرف الآخر، لكن بسبب انعكاس ضوء المصباح الخارجي من الطرف المقابل نراه بحجمٍ كبير. قال لنا: لا تهتمّوا، آل خليفة مثل هذا النمل، نحن الذين نراهم فيلًا".

يُكمل علي:"عندما أوشك عمي على الخروج، قلنا له تعال اختبئ معنا، أو اذهب إلى مكانٍ آخر تختبئ فيه. قال: لا أستطيع فعل ذلك. أنا فقط لا أحتمل أن يهينوني أمام ابنتي زهراء وسارة، لهذا لا أنام في البيت، لكن مجرد أن يأتوا ويطلبوني سأسلّم نفسي، ها أنا أخبركم. كنّا نُحاول إقناعه أن لا يفعل، فيجيب: ماذا سيفعلون بي؟ سيعذبونني؟ لا يُخيفني تعذيبهم. ثم رفع يده: فقط أسأل الله إن عذبوني، أن يكون ذلك كفّارةً لي عن عذاب الآخرة. وقد كان له ما أراد".

"قبل أن يُغادر، أوصانا بالصبر مرّةً أخرى. ودّعنا وسلّم علينا واحتضننا، وصل إلى الباب ثم عاد. ودّعنا مرّةً أخرى واحتضننا، ثم وصل إلى الباب مرّةً ثانية وعاد، كّرر الفعل ذاته 4 مرات، وعاد الخامسة، لكن ثمّةَ من كان ينتظره عند الباب، (حرص أن لا يأتي إلينا بسيارته وجاء مع صديقٍ لا نعرفه) قال له الأخير: "كريم ترى وراي شغل، إذا تريد تجلس سأعود لك فيما بعد"، حينها قال عمي: لا، أنا ذاهب معك،وخرج".

الشهادة..

 
"بعد أيام داهموا بيته، ولم يكن موجودًا ولا عائلته، عرف أنهم داهموه من خلال جرس الإنذار. صباحًا ذهب وشاهد ما فعلوه بالبيت من سرقة وتدمير. اتصل بوالدته وقال لها: سأتأخّر عليك اليوم. ثم أخذ سائقًا معه لكي يعود بالسيارة في حال تمّ اعتقاله. وصل المركز وقال لهم: لماذا هجمتم على بيتي وسرقتموه؟ إذا كنتم تريدونني أنا موجود، استدعوني وسآتي لكم. قال له الضابط: هل تتّهمنا بالسرقة؟ قال لهم: أنا أقول لكم ما حدث. قال له الضابط دعني أعمل اتصالات وأرى الموضوع، هل تريد البقاء أم الذهاب والعودة بعد نصف ساعة، قال فخراوي: سأعود بعد نصف ساعة. كان السائق خائفًا ونصحه أن لا يعود. 

ضرب فخراوي على كتفه بيده وقال له: ما بك خائف؟ هم يريدونني أنا لا أنت، هل تراني خائفًا أو قلقًا؟  ما إن دخل فخراوي المركز المرة الثانية، حتى تمّت محاصرته من جميع الجهات، وُضِع على رأسه الكيس الأسود، وبدأ الضرب، ولم نسمع عنه بعدها إلا خبر استشهاده".

يُخبر علي:"هناك معلومة خاطئة يتداولها الناس عن تاريخ وفاة فخراوي، فتاريخ استشهاده هو 11 ابريل وليس 12، لقد أخبروا أهله بوفاته بتاريخ 12، وسلّموا الأهل الجثة بتاريخ 13، ودُفن في ذلك اليوم".

يُكمل: "تمّ استدعاء عمّي الأكبر، لم يخبروا عن استشهاده، بل قالوا: "تعالوا شوفوه". عمي رجل مريض وعمره تجاوز الـ70 عامًا، لكن لم يُسمح لغيره بالدخول. أخذوه إلى المشرحة وهناك ما لا يقلّ عن 30 مُلثّمًا يحملون الأسلحة، والمكان ظلام، سَحَب أحدهم الغطاء عن وجه الشهيد، وببرودٍ سألوه: "هذا أخوك؟" قال نعم.

قالوا له: "تأخذه وتدفنه بسكوت وبلا صوت وإلا سيكون مصيرك مثل مصيره". رفضوا تسليم الجثّة لأحد، أتوا بها مُباشرةً إلى المقبرة. وهناك كانت المخابرات قد نُشرت عند باب المقبرة وداخلها حتى يتأكّدوا من عدم التصوير. لكنّ عدد المُشيّعين الكبير، وهجوم الشباب، أفقدهم السيطرة. الشباب أنزلوا الجنازة وصوّروا، نزل الدم من الشهيد فأخذوه مرّةً أخرى للمغتسل وصوّروه، ثم كان التشييع".

"أما نحن فسمعنا خبر الاستشهاد من قناة المنار، وكانت أول جملة قلناها: لا يليق بمقامه أقل من مقام الشهادة. لم نتمكّن من حضور التشييع، كان احتمال اعتقالنا من قبل المخابرات المنتشرين هناك كبيرًا إن لم يكن كمينًا. عملنا استخارة للذهاب إلى التشييع فكانت نهيًا بشدة. بعد 3 أيام رأيتُ عمي في المنام، كان واثقًا وضاحكًا، قال لي عبارتين اثنتين، الأولى: "ما يقدرون يوصلون لك، لا تخاف". والثانية: "مصير الشعب البحريني الانتصار". ثم أفقتُ من النوم".

الابن مُدلِّلًا أمَّه..

 
"كان عمي عمود خيمة عائلة فخرواي، وقد انكسر العمود الآن، ما زالت العائلة غير مستوعبة كسر عمودها، وما زالت غير قادرة على لملمة حزنها. كل علاقات عمي بعائلته خاصّة، لكنّ أخصَّها علاقته بجدّتي: والدته. فقد كان نسخةً منها في كل شيء، في صفاتها، وفي كرمها، وإصرارها، وعزيمتها، وتواضعها، وحنانها، وتقديم المساعدات للمحتاجين دون أن يعرف أحد. كانت جدتي تقدّم مساعدات لعدد من البيوت والعوائل لم يُعرف عنها ذلك أحد حتى أصبحت عاجزةً عن المشي، واضطرت إلى تكليف عمتي الصغرى بالتوصيل، كذلك كان عمّي كريم. لقد أسمته جدتي كريم، فكان الاسم والمُسمّى، يُعطي دون أن يُعرف، حتى أقرب الناس إليه لا يعلمون بما يُعطي. له مساهمات كبيرة لعددٍ من الجهات الخيرية، بالإضافة إلى العوائل والفقراء والأيتام، وعددٍ من الجمعيات الخيرية والمآتم الحسينية، وكل إسهاماته يُقدّمها باسم فاعل خير".

"أما عن علاقته بجدتي فقد كان مثاليًا في تدليلها، حتى أنها تحب أن تفتعل الزعل كي يُراضيها ويُدلّلها أكثر. يأتي إلى زيارتها مرّتين في اليوم، الثامنة صباحًا والرابعة مساءً، بتوقيتٍ مُبرمَج وثابت، مهما كانت أشغاله وانشغالاته، وعندما يكون مسافرًا يتّصل بها في هذين التوقيتين. كان مؤمنًا أنّ زيارته لوالدته وبرّه بها ووصله إليها هو سرّ تيسيير الأمور له، وفي أحلك الظروف التي يمرّ بها يأتي ويطلب من جدتي أن تدعي له. لم يكن عمي يترك أحدًا غيره يأخذ جدتي إلى المستشفى أو أيّ مكان آخر. يقول مادمتُ أنا موجودًا لا أحد يتكفّل بها سواي. جدتي لا تحب ركوب الاسعاف، وبعد أن صارت غير قادرة على المشي، صار يأتي إليها، يركن السيارة عند باب البيت، يحملها فوق ظهره، ويأخذها للسيارة بنفسه. ولفرط عنايته بها وتدليله إليها، تقول إليه أحيانًا يكفي أخجلتني. يقول لها أنت أمي لو رميتِني بحجر وطردتِني من البيت، أعود لك في اليوم الثاني وأُقبّل يدك التي رمتني. لا أحد غيركِ يعتني بي".

أعتقل واستُشهِد فخراوي ولم يُخبرها أحد، لم يجرؤ أحد، ولا يضمن أحدٌ ماذا يمكن أن يحدث لها إن عرفتْ، تجلس صباحًا، تنتظره عند الثامنة كعادته، يطوف الوقت الذي لم يكن يطوف إلا وهو مُقبِّلٌ يدها، تنزل دمعتها باحتراق: متى يأتي حبيبي الذي يُدلّلني؟ لم أعد (أزعل) كي لا يراضيني أحد غيره..


التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus