تحقيق حول الطائفية في البحرين، وما بعد: مقابلة مع جستين غينغلر

2013-05-02 - 9:29 ص


بقلم: جون وارنر
ترجمة: مرآة البحرين

حسب ما هو منتشر اليوم في سياسيات شبه الجزيرة العربية، وبعد عصر الثورات العربية، باتت "الطائفية" أبرز ما يميز الصراعات والاضطرابات. هذا المصطلح، حسب ما هو شائع – ضمنيًا، فهو غير مقبول، ولم يتم تعريفه – يصف النزاعات السياسية، وفي الوقت نفسه، هو شرح لهذه النزاعات. وتاريخ "الطائفية" أكاديميًا، كموضوعٍ للبحث، وكتحليل يمتلك قوة تفسيرية، يعتبر موضوعًا جدليًا؛ وقد استُخدِمَ بطريقة غير نقدية في بعض الأوقات، ورفض كلِّيًّا في أوقات أخرى.

ونظرًا لازدياد الأبحاث الجديدة المتعلقة بـ "الطائفية"، والتي تعالج تعاظم هذه المشكلة الشائعة، والظاهرة السياسية المرتبطة بها، طرحت عددًا من الأسئلة حول الموضوع على "جستين غينغلر"، وهو باحث بارز في "معهد البحوث الاجتماعية والاقتصادية المسحية" (SESRI) بجامعة قطر، ومحاضِر مُساعِد في حرم جامعة "نورث ويسترن" (Northwestern University) في قطر. وفي عام 2009، طرح أول استبيان سياسي ضخم على الإطلاق حول المواطنين البحرينيين، كجزء من بحث ميداني في "جامعة ميشيغان" (Michigan University). وهو مستمرٌ في الكتابة عن السياسة البحرينية، والقطرية، والخليجية، إضافةً إلى السياسات الطائفية.

وفي إصدار شتاء عام 2012 من "سياسة الشرق الأوسط" نشرت مقالة له بعنوان "التكاليف السياسية لتوجهات قطر الغربية"، وهو يساهم أيضًا في المجلد المنقح الذي سينشر قريبًا تحت عنوان "السياسة الطائفية في الخليج الفارسي". إضافةً إلى أنه يتابع  مدونة تحت اسم الدين والسياسة في البحرين، ويعمل على إكمال كتاب حول البحرين استنادًا على بحثه الميداني.

جون وارنر (ج.و.): هل تستطيع أن تعطينا مقدمة موجزة حول البحث الخاص بك في شبه الجزيرة العربية، وأن تصف مواضع الطائفية فيه؟ كيف أثَّرت الانتفاضات الأخيرة، والثورات المضادة على مسار عملك؟

جستين غينغلر (ج.غ.): إن اهتمامي بمنطقة البحرين، ودول الخليج العربية، وبظاهرة الطائفية العامة، هو بمعظمه عن طريق الصدفة. ففي بداية عام 2008، قام أعضاء من "القاعدة" في شبه الجزيرة العربية بعدد من الاعتداءات على السفارة الأميركية في صنعاء، حيث سكنت لتعلم اللغة العربية منذ عام 2006، وذلك تحضيرًا لزمالة "فولبرايت"، التي سأكملها أيضًا في اليمن. وخُيِّرْتُ بين البقاء في اليمن من دون أي تمويل، أو الانتقال إلى دولة أخرى لأستكمل فيها تعلم اللغة، والحصول على الزمالة. ولأن هدفي كان إجراء استبيان (ذي كلفةٍ مرتفعة) على مستوي وطني، حول المواطنين اليمنيين، كجزء من البحث الميداني، فلم يكن أمامي أي خيار آخر كي أتخرّج. غادرت اليمن، ولأنني قمت مسبقًا باتصالاتي مع مركز للبحوث المتعلقة بالمسح (تم حلّه حاليًا) في البحرين، أعدت تنظيم خطة البحث العلمي لإجراء الاستبيان في البحرين عوضًا عن اليمن.

 
وبعد أن عشت في اليمن لمدة سنتين، لم ألحظ الاهتمام الكبير بالانتماء الطائفي للفرد، على الرغم من التنوع الطائفي في البلد (الذي يأخذ اليوم منحًى آخر)، فصدمت، عند وصولي إلى البحرين، بالانتشار الواسع لمظاهر الاختلاف بين السنة والشيعة. أولاً، الجزيرة بأكملها منظمة جغرافيًّا حسب ما وصفه اللغوي في جامعة أوكسفورد، "كلايف هولز" بجدارة بقوله إنه "نظام شبيه بنظام الفصل العنصري عن طريق الفصل الإرادي". ولكن حتى في منطقة المنامة "المختلطة"، حيث كنت أسكن، لم يتطلب الأمر وقتًا طويلًا كي أدرك أن المساجد والمنازل الشيعية القريبة من بعضها بشكل عام، ترفع رايات سوداء أو متعددة الألوان، في حين أن المنازل السنية ترفع العلم الوطني. وفي ما يتعلق بالآليات التي يملكها السنة، فهي على الأغلب مزينة بملصقات تجاهر بالإيمان الإسلامي، أما السيارات التي يمتلكها الشيعة، فيوجد عليها العبارة المشهورة "اللهم صل على محمد وآل محمد"، والتي يمكن ملاحظتها أيضًا على اللافتات الموجودة في القرى والأحياء الشيعية. حتى أن المساجد السنية والشيعية في أحد مراكز التسوق في مدينة عيسى منفصلة، كلٌّ في جهةٍ مقابلة للآخر عند أطراف المجمع. وتكثر المشاهد المشابهة للتقسيم الاجتماعي والسياسي والفيزيائي.

وهذه السلطة المحتمة للجماعات الدينية أوحت لي سؤالًا بسيطًا، وكان هذا السؤال مدخلًا لكلٍّ من أطروحتي، والعمل المترتب عليها: هل يصح أن الآراء السياسية والسلوك السياسي للمواطنين في المجتمعات الخليجية تحددها أساسًا الاعتبارات الاقتصادية؟ في البحرين، على الأقل، كان من الصعب تحديد هذا الأمر سواءً كان لدى الشيعة أو لدى السنّة. وبالطبع، إن نقد إطار عمل الدولة الريعية ليس أمرًا جديدًا بحد ذاته، لكن ما ميَّز دراستي وأعمالي عن أعمال الآخرين، هو استخدامي لبيانات المسح للتحقيق في هذه المسائل تجريبيًّا. فإذا كانت نظرية الدولة الريعية مؤداها فهم الحوافز السياسية للمواطنين في الدول التي تعتمد على الإيجار، فلماذا لا نستطيع التحقيق في أمر ادعاءاتها عن طريق سؤال الأفراد عن توجهاتهم السياسية وسلوكهم السياسي؟ لكنني لم أكن أنوِ القيام بهذا الأمر إلى تاريخ إجراء الدراسة عن البحرين (والتي استفدت فيها من بيانات مسح مُكَمِّلة من العراق).

وحسب ما تبين، فإن الاستبيان السياسي الذي قمت به هو الأول من نوعه في البحرين، مما جعل العملية صعبة. وفي بعض الأحيان، وتحديدًا عندما تم استدعائي للاستجواب في مركز الشرطة، بدا لي أن المشروع سيفشل. لكنني، شاكرًا، تمكنت في النهاية من إكمال المسح (الذي يشكل جزءًا من المشروع الأكبر للباروميتر العربي الذي يرأسه عدد من الباحثين في جامعتي "ميشيغان" و"برنستون") وإنهاء أطروحتي.

(ج.و.): إن التلخيص الخاص بك حول مساهمتك في في المجلد المنقح الذي سينشر قريبًا تحت عنوان "السياسة الطائفية في الخليج الفارسي" يشير إلى مشكلتين رئيسيتين في الأعمال الأكاديمية السابقة حول الطائفية. هل تستطيع أن تحدثنا عن تلك الأعمال، وعن الانتقادات التي انتشرت حولها؟

(ج.غ.): المشكلة الأكثر شيوعًا في الحلول المقترحة للطائفية وغيرها من أنواع الصراعات الجماعية – سواءً كانت موجودة في الكتابات الأكاديمية أو في النقاشات الشعبية – هي اللجوء إلى الوصف أو السرد عوضًا عن التفسير. ولذلك يقال إن العراق، أو البحرين، أو سريلنكا تعاني من "أحقاد راسخة"، و"عداوات ممتدة"، وغيرها من الصراعات الجوهرية التي يتعذر حلها؛ وهذه بدورها تغذي عدم الاستقرار السياسي، والتباين الاجتماعي، والحرب الأهلية، وغيره. ولكن هذا التفسير لا يعتبر تفسيرًا ملائمًا على الإطلاق، بل تكرارًا للكلام نفسه: الطائفية تؤثر على المجتمع عن طريق "التوتر"، و"السجالات"، والمشاعر التي لا تفهم بمعانيها الصحيحة – أي عن طريق الطائفية.

والفشل الحاصل في تعريف الآليات الواقعية المسببة للطائفية كظاهرة إجتماعية وسياسية، ساهم في الوقت نفسه، في إثارة ردة الفعل المعارضة بين الأكاديميين، وهو الرفض التام للطائفية كأداة تحليلية مفيدة. فحسب ما يعلل هؤلاء النقاد، إن لم يتمكن الباحثون في الطائفية من الاستشهاد بأي حديثٍ عوضًا عن المشاعر المبهمة، والعدائية التاريخية أثناء شرح النتائج المتعددة في الكثير من المجتمعات، فيجب دراسة ما هو أكثر أهمية. وبالتالي، فإن الطائفية تفتح المجال أمام الشروحات العامة، وعادة ما يكون الاقتصاد أساس هذه الشروحات.

(ج.و.): كيف غذت الأعمال السابقة، والانتقادات التي نتجت عنها، الحديث العام في الغرب، من الجهتين التاريخية والحالية، حول التديّن، والسياسة، والعنف في  الشرق الأوسط؟

 
(ج.غ.): إن دراسة الطائفية، أو حتى كلمة الطائفية بذاتها، في سياق الحديث في الشرق الاوسط والخليج، تميل إلى استحضار مشاعر قوية في طرفي الطيف التحليلي. وبمحاذاة التفسيرات النظرية المعارضة التي تم تعريفها مسبقًا، يوجد أولئك الذين يرون فيها شرحًا موسعًا للفساد الظاهر، والاختلال الوظيفي في مجتمعات الشرق الأوسط، أو المجتمعات العربية، أو الإسلامية، وهؤلاء يزعجهم التعصب الديني الداخلي والعنف، حتى أثناء نشره في الخارج. وفي الجانب الآخر، يوجد، بشكل جزئي، أولئك الذين يتفاعلون مع مثل هذه الجدالات الجوهرية، والذين يتبنون مواقف معارضة لإنكار أي قيمة تفسيرية لـ "الطائفية"، وهم يعتبرونها اليوم المظهر الخارجي الخادع لبعض الصراعات البسيطة على موارد المجموعة التي يستطيع تفسيرها كل من درس نظرية الألعاب (Game Theory). ولفهم النتائج الاجتماعية والسياسية من منظور الطائفية، فهي في أحسن الحالات غير معقدة وساذجة، وفي أسوأ الحالات آثار قديمة من الاستشراق.

والنتيجة المؤسفة هي أن من يدرس الطائفية هو إما يعاني فوبيا من الإسلام، أو استعماري جديد. ويمكن ملاحظة بعض ملامح هذا التوتر التحليلي من واقع النقاشات التي دارت بين المشاركين في الإصدار المذكور آنفًا حيال استخدام كلمة "طائفية" أو "طائفي"، أو عدم استخدامها على الإطلاق.

(ج.و.): بالنظر إلى تلك الانتقادات، لماذا تجد الطائفية مفيدة من المنظور التحليلي؟ وكيف تعيد تعريف هذا المفهوم في دراستك؟

(ج.غ.): أرى أن النكسة التي تعرض لها مفهوم الطائفية يعود أساسًا إلى عدم الدقة في تعريفه وتحليله حتى يومنا هذا، وليس جراء فكرة التمييز بين المجموعات الدينية، والإثنية، أو المجموعات الأخرى، من ناحية أنها لا تلعب أي دورٍ في التأثير على النتائج الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في المجتمعات المختلفة، أقله ليس في منطقة الخليج.

والخطوة الأولى لتحويل "الطائفية" إلى أداة مفاهيمية مفيدة، هي عن طريق تعريفها بأسلوب يجنبها هفوات تكرار المعنى والسرد. فعندما يقوم الفرد بالعمل على هذا الأساس – أنا أتبنى تعريفًا موسعًا: تسييس هويات المجموعات الدينية، أوالإثنية، أو أي مجموعة أخرى – فهو يرى أن هذا المفهوم لا يُعرَّف كسبب لهذه المشكلة الاجتماعية أو السياسية، أو تلك، ولكن كنتيجة لبعض عمليات تنسيق الجماعة السياسية، وتحديد خططها. فعندما يبدأ الفرد بتعريف هذه المسارات السببية الكامنة والتدقيق فيها، يصبح من السهل شرح سبب ظهور الهوية الدينية أو الإثنية في السياسة أحيانًا أو ظهورها في بعض السياقات، وعدم ظهورها في سياقات أخرى. وبهذه الطريقة، يخلق التحقيق الناتج نوعًا من الوسطية بين وجهتي النظر المتعارضتين: الطائفية هي أكثر من استمرار السجالات وتضامن المجموعة، بل إن التحليل لا يلغي أيضًا الظروف التاريخية والمؤسساتية لأي مجتمع أو منطقة.

(ج.و.): الطائفية مفهوم متحرك، ويُطَبق في السياقات الاجتماعية-السياسية بشكل مختلف سواء في آيرلندا الشمالية، وسريلانكا، وكندا، وميانمار. فهل ثمة شيء محدد في ما يتعلق بالطائفية في الخليج الفارسي؟ هل تتشابه دول الخليج بالتجارب التاريخية والأوضاع السياسية، والاقتصادية المعاصرة، المرتبطة بالطائفية، أو هل أنها ذات قيمة نسبية محدودة؟

 
(ج.غ.): أستطيع القول إن الطائفية في سياق الحديث عن الخليج الفارسي هي نتيجة ثلاث عمليات رئيسية، إحداها فقط متعلقة بالمنطقة.

أولاً، المؤسسات السياسية والاقتصادية التي تمنح امتيازات لتنسيق المجموعات على مبدأ توصيفات للفئات الاجتماعية، سواء كانت طائفة، أو عرقًا، أو إقليمًا، أو قبيلة، أو مجموعة أخرى ظاهرة تعود إلى نسب محدد. من الناحية السياسية، إن بيئة المنطقة السياسية والقاحلة نسبيًا – مع غياب الإعلام المستقل، والمنظمات غير الحكومية، والمؤسسات التمثيلية الفاعلة، والأحزاب السياسية، وإلى ما هنالك – تصعب على المواطنين عملية التنظيم السياسي على أساس سياسات المصالح المشتركة، لأن الأفراد لا يستطيعون تحديد آراء المواطنين الآخرين بسهولة والاستدلال منها. وعلى العكس من ذلك، فإن التوصيفات الاجتماعية كالعرق، أو الدين، يمكن انتقالها بسهولة عن طريق المظاهر الخارجية – اللهجة، اسم العائلة، والملابس، ولون البشرة...الخ – التي تشكل معارف مشتركة لكل من الأعضاء وغير الأعضاء. في حين أن تلك التوصيفات قد تمثل أو لا تمثل المصالح المشتركة الحقيقية للأعضاء، إلا أنه يسهل رصدها، ولأنها تعتمد على صلة النسب فهي مستقرة على مدى زمني.

ومن المظاهر المؤسساتية لبيئة الخليج، والتي تفضل التنسيق السياسي بناءً على توصيف المجموعات، هو النظام الاقتصادي في المنطقة. وباختصار، يمنح الاقتصاد التوزيعي قاعدة صغيرة للتنسيق السياسي على أساس المصالح الاقتصادية. وإضافةً إلى أنه لا يوجد تجمع طبيعي كدفع الطبقة الوسطى للضرائب، والتي قد ينشأ من خلالها ائتلاف مجتمعي للمواطنين، فالنظام الريعي بذاته قد يحفز الأفراد – لا الجماعات – على التنافس بما يعود على الدولة بالمصلحة. وفعلًا، مع البدء بالتعبيرات الأولى لإطار عمل الدولة الريعية، توقع واضعو النظريات أن الأحزاب السياسية التي تمثل التوجه الأيديولوجي وحدها – وتحديدًا الأحزاب المستندة على الإسلام – كان من المرجح أن يتم تشكيلها في الاقتصادات التخصيصية.

وهذا الميل الطبيعي لصلة النسب عوضًا عن الائتلافات السياسية المستندة على القضايا، تم تعزيزه – عن عمد إلى حد كبير – من خلال عمليات بناء الدولة التي تبنتها الأنظمة الخليجية. قام عدد من المؤسسات التمثيلية التي أنشأتها العائلات الحاكمة بترسيخ المنافسة السياسية المستندة على الجماعات، على أساس قبلي، وطائفي، ومناطقي، وإلى ما هنالك، وذلك من خلال الاحتيال، والغش، والقوانين الانتخابية غير العادلة.

فعلى سبيل المثال، في الكويت والبحرين، الهدف من عدد الدوائر الانتخابية وتصميمها، إضعاف التمثيل الانتخابي في دوائر انتخابية محددة مستندة على الجماعات. وإضافةً إلى ذلك، تستخدم الدولة في البحرين ما يطلق عليه اسم "مراكز الاقتراع العامة في مواقع استراتيجية على طول البلاد – في المطار، وعلى الجسر المؤدي إلى المملكة العربية السعودية...الخ – غير مرتبطة بأي دائرة. وهذا الأمر يسهل عملية التصويت على أفراد القوات المسلحة، والسعوديين أصحاب الجنسيتين، ومجموعات أخرى، تم إدخالهم إلى البحرين بالباصات في  ما مضى في مثل هذه المناسبات. وتحصر الإمارات العربية المتحدة التصويت لعدد من الناخبين المؤهلين اختارتهم في عملية اختيار مجهولة. وفي الانتخابات الأخيرة التي أجرتها عام 2011، كانت نسبة هؤلاء الناخبين 12% فقط من عدد السكان. أما في المملكة العربية السعودية، فيستطيع الناخبون الإدلاء بأصواتهم في أكثر من دائرة تابعة للبلدية ذاتها، وذلك في سبيل إعاقة الفرص الانتخابية للمرشحين الذين يمتلكون دعما محليًّا، وهو بند خاص بهذا البلد.

وأخيرًا، في قطر، التي لم تصدر قانونًا انتخابيًّا خاصًّا بها بعد (من المتوقع أن يصدر لاحقًا في هذه السنة في موعد انتخابات مجلس الشورى الموعود)، ومن المتوقع أن يقوم المواطنون، على نطاق واسع، بالانتخاب في الدوائر الأم لآبائهم أو أجدادهم (قانون يطبق أيضًا في الأردن وفي بلدان أخرى)، وذلك لترسيخ أنماط التمثيل العائلي والقبلي. وعلى الرغم من أن هذه المؤسسات التمثيلية تفتقر بشكل عام إلى الأهمية العملية السياسية، لذا فهي لا زالت ذات منفعة في الكشف عن الاستراتيجية المتعمدة التي وضعتها الأنظمة لهيكلة أشكال المنافسة السياسية التي يمكن أن تنشأ في المجتمع.

إضافةً إلى ذلك، أكدت الكتابات الوطنية التي وضعتها معظم الدول الخليجية على نسخة محددة من التاريخ والأشخاص، وهي نسخة لا تنطبق عليها الجميع. وأدى هذا الأمر إلى تقسيم الشعب بين أولئك الذين يمتلكون الشروط الرئيسية النَسَبِيَّة للمواطن الشرعي والمخلص، وبين أولئك الذين يستبعدهم تاريخهم المنحرف. ولأن الميثولوجيا الوطنية لا يمكن أن تمتلك تمثيلا كاملا لتنوع الأفراد الموجودين في الوطن، نلحظ غياب مجتمع واحد دائما وبشكل واضح من عدد كبير من الكتابات الخليجية التي تؤكد على الهوية السنية للقبائل، والفئة الغائبة من هذه الكتابات هم العرب الشيعة. وبعد إقصائهم من الهويات التي جاءت على صورة الأسر الحاكمة، أسس الشيعة من العرب فولوكلورهم الوطني الخاص، الذي يستند على المفاهيم المشتركة حول الظلم والخيانة المتجذرة في أساس الإسلام. وبهذه الطريقة، يستمر الإسلام السياسي الديني، الذي يعود إلى ألفية مضت من الزمن، في التداخل في العملية المستمرة للتهميش الوطني، وذلك لتعزيز الاستقطاب على طول الخطوط السنية – الشيعية.

(ج.و.): إن انتشار نشاط العمل، والمجموعات الماركسية، كجبهة تحرير ظفار، والحركات الإصلاحية، كهيئة الاتحاد الوطني البحرينية، عبر شبه الجزيرة العربية في بداية منتصف القرن العشرين تفرض احتمال وجود منظمات سياسية غير طائفية/مكافحة للطائفية/مناهضة للطائفية في ظل ظروف تاريخية محددة. كيف انتشرت سبل التعبئة التضامن وخفتت في الحقبات الاستعمارية وما بعد الاستعمارية؟

(ج.غ.): فعلًا، فلكي نلاحظ الإمكانيات المميزة لهويات المجموعات الوصفية كنقط محورية للتعاون السياسي في المنطقة، يجب عدم اقتراح الظهور غير المهادن للصراعات الطائفية كمثال على طبيعة دول الخليج. وكما تخدم بعض صفات تاريخ المنطقة والمنظمات السياسية –الاقتصادية في تضخيم ظهور العرق، أو القبيلة، أو الطائفة، تستطيع المؤسسات، والتطور التاريخي أن تشجع على العكس. يمكن استخدام الانتخابات، والبرلمانات، وغيرها من الهيئات الاستشارية لتعزيز التحاور داخل المجموعة عوضًا عن التنافس بين المجموعات. وجرت المحاولة للقيام بهذه الخطوة بشكل صريح – على الرغم من أن المرء يستطيع أن يجادل بشأن مدى نجاحها – في العراق عقب عام 2003؛ واليوم يتم توظيف الترتيبات التوافقية، والتمثيل الفائق للنسبية في البرلمان، وغيرها من الآليات التي تساعد على إبعاد المجتمع عن ميله الكامن نحو خلق المجموعات السياسية العرقية، والطائفية.

وفعلًا، كما لمحت في السؤال، أصبحت التعبئة والهويات السياسية المناهضة للطائفية محتملة الوجود، إن لم تكن مسيطرة في عدد من الأوقات والأماكن على طول شبه الجزيرة العربية. غير أنه ثمة عاملين منفصلين قد يجتمعان للحشد ضد هذه الائتلافات المجتمعية: تقوية الدولة الريعية، وانتصار الإسلام على القومية العربية كقوة أيديولوجية في العالم العربي. والاستنتاج الرئيسي في كلتا الحالتين هو أن الحكام والحكومات لا يقفون مكتوفي الأيدي في عمليات التعاون الاجتماعي والسياسي (أو عدم التعاون)، لكنهم ينجحون في تسخير هذه القوى لمصالحهم الخاصة.

إن توحيد الإقتصاد المعتمد على النفط، الأمر الذي يتوافق بقوة مع مصالح الإدارة الاستعمارية في الخليج، منح القادة المرونة في التعامل مع التغيرات السياسية. ومع ارتفاع نسبة إيرادات الموارد، والشركات النفطية التي تمتلكها الدولة، وغيرها من المرافق التقليدية للعمال والاتحادات، يمكن تقسيم العمل بشكل متزايد مع أجانب غير سياسيين بدلًا من الوطنيين، وقد عمل الأخير على نشر بيرقراطيات مكتب الحكومة حيث يتشارك العمال أسس قليلة للعمل الجماعي. وبشكل أعم، تستطيع الحكومات الآن أن تقدم الدعم المالي لعدد كبير من المواطنين لمتابعة جهودها في التعاون السياسي، ولتجنيس مواطنين أكثر وفاءً من الخارج حسب ما هو مفترض (ولا نتحدث عن انتشار أجهزة الأمن والاستخبارات مرة أخرى بواسطة أجانب غير سياسيين). وفي العقدين الذين تليا الاستقلال عام 1961، على سبيل المثال، منحت الكويت الجنسية لأكثر من مئتي ألف سني من القبائل الموجودة في الصحاري المحيطة، وذلك لمساعدة تهميش التجار في المناطق الحضرية، والمتعاطفين مع الناصرية أولًا، ومن ثم التخفيف من التأثير الانتخابي للشيعة في الكويت في صحوة الثورة الإسلامية. وقامت البحرين بهذا الأمر (وستستمر به) لغايات متشابهة، على الرغم من أن ممارساتها نصف مقياس الكويت تقريبًا.

لقد أدى هذا بشكل مباشر إلى التغير التحولي الثاني الذي قوض قدرة الحركات الاجتماعية العابرة: وقد نتج عن ذلك الهزيمة النهائية للقومية العربية على يد الإسلام السياسي، فتصالح حكام الخليج مع الحركات الإسلامية التي تتمتع بالقاعدة الشعبية، ولكن الحكام تنبهوا إلى خطر تلك السياسة مع  الثورة الإيرانية والتي يستطيع أي مواطن أن يشعر بالارتباط بها. فعمد حكام الخليج لحماية أنفسهم إلى إشاعة الخوف من خطر التوسع الإيراني خصوصا في المجتمعات ذات الأغلبية الشيعية فأصبح أي دعم لحركة ثورة أوإصلاح في الكويت أو السعودية أو البحرين تسهيلًا للتدخل الإيراني في شؤون الدول. وقد تعززت هذه المخاوف إذ لم يعمد الشيعة سواء في البحرين أو في الكويت أو في المملكة العربية السعودية إلى محاولة تبديدها.

هذا وبحلول العام 1979، تلاشت فكرة اعتبار الحركات العربية العلمانية بديلًا سياسيًا، لا بل استغلت أنظمة الخليج الدين الإسلامي في الترويج للانقسامات الطائفية لمناهضة أي تطور في التفكير الاجتماعي وذلك باسم الإسلام.

لقد كانت التجربة السياسية العراقية في العام 2003 كفيلة بتبديد هذه الإشاعات التي تروج لها السلطات إلا أنّها جاءت لتأكد بأنّ أي ديموقراطية تؤدي إلى استلام الشيعة للسلطة ستجعل من الحاكم عميلًا إيرانيًا.

وقد اتخذت السلطتان السعودية والبحرينية هذه النظرية سلاحًا ضد الاحتجاجات الحاصلة في السعودية والبحرين فأشاعت أن هذه التحركات ليست إلا تمظهرًا للتوسع الإيراني في الخليج، والذي شلّ عقول المواطنين السنة وأصحاب التوجهات العلمانية والذين لديهم نفس المطالب والمظالم. 

كان من الممكن لهذه الاحتجاجات أن تنجح خصوصا في ظل النهضة السياسية العربية التي توسعت في الاونة الاخيرة، والتي خشي منها حكام الخليج أكثر من غيرهم إلّا أنهم نجحوا في قمعها نتيجة الإشاعات الطائفية التي روّجوا لها.

(ج.و.): كيف يمكن لمصالح  التيارات الطائفية أن تلتقي مع الحركات الاقتصادية والسياسية والثقافية في ظل الاضطرابات الاجتماعية الحاصلة في مختلف البلدان العربية؟

(ج.غ): إنّ هذا السؤال يلقي الضوء على آخر نتائج السياسية الطائفية لدول الخليج التي لا تنفصل عن الظروف الجيو-سياسية للدول الخليجية. إذ انّ أي حركة يقوم بها الشيعة العرب أو الفرس يعتبرها متعصبو حكام السنة والشعوب السنية بأنها تدخل في إطار تحالف شيعي لدعم التوسع الإيراني في سبيل تحقيق هدف الشيعة الأوحد في المنطقة.

ولقد تعاظمت هذه المخاوف من شيعة العراق والبحرين والمملكة العربية السعودية والكويت بعد ما أشيع عن احتمال امتلاك الجمهورية الإسلامية الإيرانية للسلاح النووي ما سرع من تنفيذ خطط التكامل السياسي والأمني بين دول الخليج في إطار دول مجلس التعاون الخليجي. فدخلت المنطقة في مرحلة سميت " الحرب الباردة في الشرط الأوسط"، فدخل ملوك العرب السنة في صراع ضد الحكام الشيعة في إيران والعراق وسوريا.

17 نيسان/أبريل 2013


التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus