عقيل عبد المحسن: فارسٌ يستشهد كل يوم «1-2»

2013-05-14 - 5:14 م

"هل هذا ابني؟ انفجرتُ من الداخل، لكني تماسكت لا بالقوة التي لم أكن أملكها، بل بالحب الذي لا أملك غيره، لكن لم أستطع منع دموعي"  (أم عقيل) في اللقاء الأول لها بعقيل بعد إصابته.

مرآة البحرين (خاص): الطلقات الوحشية التي تسهدف القتل، تخلّفُ شهداء يرحلون مرة واحدة، ثم يرتاحون بعدها إلى الأبد، والذين لا يموتون، يستشهدون كل يوم، ولا يرتاحون. 

الشاب عقيل عبد المحسن (20 عاماً) هو أحد هؤلاء. منذ 4 ديسمبر الماضي 2012 حتى الآن، أي بعد 5 أشهر من إصابته بطلقة مباشرة فجّرت وجهه وهشمت يده اليسرى، لا يزال يستوطن الألم، ويستشهد كل يوم. ليس  مثل أية إصابة تشهد عدّها التنازلي في الوصول إلى الشفاء، ما زال عقيل كلما انتهى من عملية منهكة ومؤلمة، كانت عملية أخرى تنتظر دورها. لم يذق طعم الراحة بعد، ولا يعرف عدد العمليات التي أجريت له حتى الآن، لكنه يعرف أنها لم تنته، وأن الطريق لا يزال طويلاً.

الفارس الخيّال..

وصلت (مرآة البحرين) منزل عقيل على شارع البديع قبل موعدها. كان عقيل قد خرج -للمرة الأولى بعد العملية  الأخيرة- لممارسة هوايته الأثيرة: الفروسية وركوب الخيل. في منطقة بني جمرة حيث مسقط رأس والد عقيل ووالدته، تمتلك العائلة مزرعة خاصة وعدد من الخيول، هي عشق عقيل المحض. على صفحته في الانستغرام يضع صوراً قديمة له وهو يمتطي الفرس، يستعرض مهارته في الركوب والوقوف بكامل جسده على ظهرها، كأنه يسأل نفسه: هل سأعود ذلك الفارس الخيّال يوماً؟ 

يصل عقيل إلى البيت ممتطياً فرساً، يتحدى بها العجز. يشد لجامها بيده اليمنى فقط، لا يستطيع رفع يده اليسرى ولا تحريك أصابعه. يوثق الفرس جانباً، يُقبِل بجسده الذي ازداد نحولاً بعد أشهر العلاج التي لم تنقضِ (وصل وزنه 42 كجم بعد أن كان 52)، يدخل الغرفة بخطوات ثقيلة نسبياً، فساقه اليسرى التي تمّ شقها مؤخراً لأخذ عظم منها من أجل وضعه في فكه، لا تزال تؤلمه بجرحها المستطيل.

جلسنا في غرفة ملأت جدرانها صور عقيل، كذلك الزوايا. تتوسط الصور عبارات الفخر والاعتزاز بصمود عقيل وبطولته، إهداءات تحمل توقيعات مختلفة من جهة ما، أو عائلة شهيد ما، أو جمعية ما، أو أشخاص بعينهم. في الغرفة ذاتها جلست معنا والدته وأخته وعروسه زينب.
 
                         الفارس قبل اصابته

نايف استهدف قتلي..

يروي عقيل الواقعة: "كان ذلك في يوم الثلاثاء 4 ديسمبر 2012. كعادتي في التواجد في منطقة بني جمرة حيث أصدقائي ومسقط رأس والداي. لم تكن هناك أية حركة غريبة، لا احتجاجات ولا مواجهات، الوضع طبيعي جداً. وكانت أيام امتحانات بالمناسبة. لي معرفة شخصية بـ(رضا الغسرة) الذي كان مطلوباً، كما تربطني بأخيه حسن علاقة صداقة. رأيته في الطريق فجأة فسلمت عليه بحرارة. أركبته معي في السيارة ووقفنا جانباً أسأله عن أحواله وأحاديث عامة. مر بنا أحد الأشخاص الذين كان مشتبهاً بكونه مخابراً. طالعَنا وتوجسنا. لم نكترث وأكملنا حديثنا وكنا نعبث بهواتفنا أيضاً. لم تمض 10 دقائق حتى داهمنا (كوستر) ممتلئ بالمدنيين. توقف بشكل معاكس لاتجاه سيارتي من الجهة اليسرى". 

يكمل عقيل: "في اللحظة التي التفت فيها لأرى الباص الواقف على يساري، كانت طلقة من أقل من مسافة متر تم إفراغها في وجهي. لم تسبقها كلمة أو تحذير ولا حتى تهديد. كان ذلك هو (نايف الدوسري) الذي اعترف بأنه الفاعل. بحركة تلقائية رفعت يدي اليسرى لأحمي نفسي. اخترقت الطلقة يدي وأتت على وجهي لتهشمه هو الآخر. في اللحظة نفسها كان (يوسف المناعي) قد هجم من الجهة اليمنى على (رضا) بمسدس (فرد) صغير، وجَّهه نحوه مباشرة، أراد فتح باب السيارة، لحسن الحظ كان مقفلاً.  

الفرار من الموت..

"بحركة سريعة أدار (رضا) مفتاح السيارة وصرخ فيَّ: اهرب.. دوس بترول!! 

لم يلتفت (رضا) لحجم إصابتي بسبب رعب الموقف الذي كنا فيه، كان يجلس على يميني ولم ير وجهي (المنهار) من جهة اليسار. وفي الحقيقة لم أكن أنا نفسي أعرف حجم إصابتي. وجهي لم أشعر به حينها، ولا أعرف نوعية الإصابة التي نالت منه، كنت أرى يدي المهشّمة والدم يغرقني بالكامل. كنا في لحظة الفرار من الموت فقط، كل هذا حدث في لحظة واحدة تكاد لا تصدق. بعد أن صرخ بي (رضا) كي أهرب أمسكت مقود السيارة بيدي اليمنى، ودعست بنزين السيارة بطاقتي القصوى، كان الشارع فارغاً أمامي، انفلتنا بسرعة جنونية، لا أعرف المسافة التي قطعناها ولا عدد الدقائق التي استغرقناها، توغلنا جهة الزراعة، بدأت قواي تنهار ووعيي يتخبط، اصطدمت بشجر، وغبت عن الوعي.

سامحيني..

يكمل عقيل، مستعيناً بذاكرته حيناً، وبالتفاصيل التي نقلها له من كانوا معه عندما كان بين الوعي واللاوعي: "هنا التفت رضا لإصابتي وراح يصرخ بجنون، لم أعرف كم من الزمن استغرق حتى اجتمع حولي مجموعة من الأهالي، وكنت أسمع صوت صراخهم: قتلوووووه. نقلوني إلى أحد البيوت. اتصل (رضا) بخالي الذي يسكن قريباً جداً، استغرق بعض الوقت قبل أن يصل وكنت أغرق في دمي. كنت أفيق للحظة ثم أعاود الإغماء. لا أرى غير بركة دمي والضوضاء. بتوجس كبير حملني مجموعة من الأهالي إلى سيارة خالي، كانوا يخشون أن يتسبب حملهم لي بالمزيد من الضرر. عندما أدخلوني السيارة كنت على وشك انهيار تام، شعرت بجسدي خالياً من الدم، ظننتها النهاية، فكرت في خطيبتي التي تقدمت عائلتي رسمياً لخطبتها ولم نعقد قراننا بعد، أخرجت هاتفي بيدي اليمنى، كتبت لها: سامحيني. أعطيت صديقي هاتفي. رفعت علامة الصمود. أردت أن تكون هذه آخر لقطة لي. لم أكن قادراً على الكلام، فهم صديقي ما أريد. صورني. انهرت بالكامل. 

جسدي خالياً من الدم..

في السيارة أسمع صوت خالي يصرخ وهو يشق طريقه بحالة هستيرية لينقذني من الموت. أخذني للمستشفى الدولي الذي رفض معالجتي، تم نقلي عبر الإسعاف إلى مستشفى السلمانية. لم أكن في وعيي لأعرف ماذ حدث بعد ذلك. أفقت على أحدهم يخيط وجهي. كان وجهي مخدراً بالكامل. لم أكن أشعر بأي شيء في جسمي أو حولي. عرفت فيما بعد أن الطبيب قال لخالي، إن جسدي كان خالياً من الدم عندما وصلت، وأن بقائي على قيد الحياة كان أشبه بمعجزة. 

المدنيون وقوات الشغب كانو قد انتشروا للبحث عنا أنا ورضا، سألوا أحد الشباب عني فأخذهم إلى بيتنا، لكي يبعدهم عن (بني جمرة). وعندما وصلوا تسللوا وتسلقوا السور وبحثوا عن السيارة، لم يجدوا شيئاً فغادروا دون دخول البيت وعادوا إلى (بني جمرة). كانت أمي في البيت ولم تشعر بحركتهم وتسللهم. كانت عائدة للتو من الرقاد في المستشفى الأمريكي بعد ثلاث عمليات جراحية أجريت لها، الطبيب نصحها بالراحة لجسدها ونفسيتها. حتى ذلك الوقت لم يصلها خبر إصابتي، ولم تخبرها أخواتي إلا في اليوم الثاني خوفاً عليها، قلن لها إصابة بسيطة.

لم يعد جميلاً..

وفي (بني جمرة) كانت خالاتي قد خرجن بحثاً عني عندما سمعن بخبر الإصابة، كان ذلك بعد أن تم نقلي إلى أحد البيوت، وصلن إلى مكان سيارتي التي اصطدمت بالشجر، وتفاجئن بالدم الذي ملأ مقعد السيارة الأمامي. لم يلبث أن لحقت بهن القوات في الباص إياه وعدد من أجياب الشرطة، كان عددهم كبير جد كما تقول خالتي. صرخت خالتي بهستيريا مفجوعة: "قتلتون الجميل عقيل"! فأجابها أحدهم: "لم يعد جميلاً، شوهنا وجهه" ! قالوا ذلك وهم يضحكون باستهزاء.

قام المرتزقة بفتح (كشّافات) السيارة في وجه خالات عقيل. أوقفوهن وأخذوا هواتفهن وفتشوها بالكامل حتى رسائل (الواتس آب) قرأوها. كانوا يريدون الحصول على أية معلومة توصلهم له. يكمل عقيل "أوقفوا خالاتي لمدة ساعة كاملة، كن يصرخن: مات عقيييل. وهناك قام المرتزقة بتهشيم زجاج السيارة أمامهن". 

في ذلك الوقت كان رضا قد اختفى عن الأنظار مجدداً. التكبيرات علت في منطقة بني جمرة بالكامل، كذلك المناطق المحيطة والدراز. كانت صورة الإصابة الوحشية لوجه عقيل قد انتشرت على جميع مواقع التواصل الاجتماعي، وكان غضباً عارماً أصاب الشارع. عندها انسحب المرتزقة، وسحبوا معهم السيارة. 
 
                         الفارس يوم عقد قرانه 

تصريح الداخلية..

الداخلية بدورها أصدرت روايتها المعتادة والخالية من أي جديد: "أفراد الشرطة تعرضوا عند الساعة الثامنة من مساء تلك الليلة لعملية دهس متعمدة في منطقة بني جمرة مستهدفة حياتهم بشكل مباشر، وذلك أثناء توجههم للقبض على أحد المطلوبين"، و"أن الشرطة تعاملت مع مرتكب العملية بطلق شوزن دفاعاً عن النفس، وذلك وفقاً للصلاحيات القانونية المقررة في مثل هذه الحالات وقامت بالتحفظ على السيارة بعد هروب من فيها". 

وفي التحقيق الذي زُعم أنه فُتح مع الجاني (نايف الدوسري)، قال إنه قد أمر من يقود السيارة بالتوقف وعدم الفرار، وأنه لما لم تقف السيارة، وكانت بصدد دهسه، أطلق عليها 3 طلقات شوزن لتتوقف، قبل أن يطلق على  من كان بداخلها دفاعاً عن نفسه. 

يعلّق عقيل: "تحفظوا على السيارة لأنهم يعلمون أنها دليل براءتي، فلا أثر لرصاص الشوزن عليها الذي يدّعي أنه أطلق منه 3 طلقات لتوقيفي، ثم أن والدي عندما طالب بها أكثر من مرة، سمحوا له بالحضور لتسلمها، واستلمها بالفعل، وكان بصدد أخذها للتصليح، لكنهم عادوا واخذوها من جديد. أخبروه أنه تقرر عدم تسليمها".

لا يُخبرها أحد..

عودة إلى يوم الحادث، في مستشفى السلمانية، لم يُسمح لأي أحد بالدخول. وفي اليوم الثاني سُمح للأم والأب فقط. كانت والدة عقيل لا تزال لا تعلم عن إصابة ابنها. تقول أم عقيل "كنت في آلام مرضي الذي أقعدني، متعبة نفسياً وجسدياً، بدأت الاتصالات تأتيني ذلك اليوم، لكن بناتي أخفين هاتفي عني وكن يمسحن كل ما يصلني على الواتس أب أولاً بأول. ما زلت حتى اليوم لم أر صورة عقيل التي انتشرت حينها ولا أريد أن أراها، أعلم أني لن أحتملها". 

تبكي أم عقيل ثم تكمل "البنات أخبرنني في البداية أن إصابة بسيطة لحقت بعقيل وأنه يتلقى العلاج في المستشفى وأن ليس هناك ما يقلق. في اليوم الثاني أخبرنني أنه احتاج لعملية لكنها بسيطة أيضاً، كنت بنفسي أريد تصديق هذا لأن لا طاقة لي على ما هو أكبر. وكنت أخشى أن أسأل أكثر كي لا أصدم".

في اليوم الثاني أُجريت لعقيل عمليتان جراحيتان مؤقتتان في اليد والفك استغرقت 12 ساعة كاملة، على أن تُجرى له سلسلة من العمليات اللاحقة والمتتابعة بعد استقرار حالته الصحية. تمت خياطة الوجه الممزق بعد أن وضعت في فكّه أسياخ حديدية لتقريب ما تبقى من عظم، كذلك فعل مع اليد. سُمح للأب فقط بالدخول لرؤية لبنه. كان في حالة تخدير كامل. 

احتجاج زينب الخواجة..

حتى 3 أيام لم يكن مسموحاً لعائلة عقيل بالدخول عدا الأب فقط، كلما دخل عليه وجده مخدراً. في هذا اليوم حملت الناشطة الحقوقية (زينب الخواجة) صورة عقيل ودخلت المستشفى احتجاجاً على منع عائلته من الوصول إليه، تم منعها واعتقالها، لكن بعدها سمح  لعائلته بالدخول.

تتذكر زينب أخت عقيل صعوبة تلك الأيام بلوعة شديدة: "كانت أيام امتحاناتنا في الجامعة والمدرسة. قضيناها في انهيار كامل لا نعرف مصير عقيل ولا يُسمح لنا برؤيته، وبعد أن سُمح لنا كانوا يتعمدون إعطائه جرعة المخدر وقت زيارتنا كي لا يتواصل معنا بأية طريقة. ندخل الغرفة ومعنا مخابرين من الشرطة النسائية والرجال. كلما دخلنا الغرفة حملوا كاميرا الفيديو وصورونا. لا نستطيع النبس بأية كلمة، كانت حالة عقيل مزرية ومريعة جداً. نخرج من غرفته ونحن غارقات في البكاء، وندخل على أمي البيت متصنعين الضحك وأنه بخير، وعندما يشتد بنا الألم ندخل غرفنا وننفجر بالبكاء. كنا نؤكد على النساء اللاتي يزرن أمي أن لا ينطقن أي كلمة عن حالته".

لم يكن عقيل خلال هذه الفترة يشعر بشيء، كان يقضي يومه مخدراً بالكامل، وجهه تحديداً ويده. هذا التخدير أنقذ عقيل من أن يعيش أكثر المراحل ألماً ووجعاً وقلقاً. لهذا هو لا يتذكر آلامه عندما كان في العناية المركزة. يتذكر فقط أنه كان في اللاأمان. 

"في المرة الأولى التي بدأت فيها أعي إصابتي، كنت أنظر إلى ال(ستيكر) الذي يحيط بمعصمي. أقرأ عليه اسمي. أقول في نفسي: هذا أنا عقيل. هل معقول أني لم أمت بعد؟ كنت فقط أريد عائلتي أن تكون معي، كنت في خوف شديد وشعور خانق باللاأمان والغربة. (هنا تنهار أم عقيل وتبكي ونطلب إخراجها من الغرفة). يكمل عقيل: " لم أر وجهي طوال فترة وجودي في العناية المركزة، ولم أعرف كيف كنت أبدو حينها، كان ذلك رحمة لي بلا شك. لم يكن لدي فكٌ للكلام ولا لتناول الطعام. وُضع لي مغذٍّ عن طريق الأنف، كما وضع في رقبتي (هوز) للتنفس. بقيت في العناية لمدة شهر ونصف تقريباً، كان يتناوب على حراستي شرطيان، أحدهما يمني والآخر باكستاني، لم أر الرحمة في عين أي منهما رغم حالتي التي تنهزم أمامها الكراهية. أقصى ما قاله الباكستاني كان توبيخي: يعني شنو يسوى عليك؟!

يدخل عليه ذات مرة أحدهم، يسأل عقيل: صمود؟ ينظر إليه عقيل، يهزّ رأسه بنعم ظنّاً منه أنه أحد المتعاطفين. يقول له الأخير: تف عليك وعلى ويهك، صمود ها؟! يأتي الشخص نفسه في اليوم الثاني. يسأل السؤال نفسه، يهز عقيل رأسه بالنفي، يخرج الأول مثل منتصر. 

كيف عاش عقيل أيامه في المستشفى وصراع المرض والخوف؟ وهل انتهى عندما غادر المستشفى؟ كيف يعيش لحظات ألمه وخوفه وهواجسه وكيف يتقوى عليها؟ تابعوا الجزء التالي.


التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus