والدة عقيل عبد المحسن: وسأزفه بنفسي فارساً وسيماً فوق حصان، وسأنثر عليه مشموم الفرح «2-2»

2013-05-16 - 6:17 ص

"هل هذا ابني؟ انفجرتُ من الداخل، لكني تماسكت لا بالقوة التي لم أكن أملكها، بل بالحب الذي لا أملك غيره، لكن لم أستطع منع دموعي"  (أم عقيل) في اللقاء الأول لها بعقيل بعد إصابته.

مرآة البحرين (خاص): الطلقات الوحشية التي تسهدف القتل، تخلّفُ شهداء يرحلون مرة واحدة، ثم يرتاحون بعدها إلى الأبد، والذين لا يموتون، يستشهدون كل يوم، ولا يرتاحون. 

الشاب عقيل عبد المحسن (20 عاماً) هو أحد هؤلاء. منذ 4 ديسمبر الماضي 2012 حتى الآن، أي بعد 5 أشهر من إصابته بطلقة مباشرة فجّرت وجهه وهشمت يده اليسرى، لا يزال يستوطن الألم، ويستشهد كل يوم. ليس  مثل أية إصابة تشهد عدّها التنازلي في الوصول إلى الشفاء، ما زال عقيل كلما انتهى من عملية منهكة ومؤلمة، كانت عملية أخرى تنتظر دورها. لم يذق طعم الراحة بعد، ولا يعرف عدد العمليات التي أجريت له حتى الآن، لكنه يعرف أنها لم تنته، وأن الطريق لا يزال طويلاً.

أبي بس أتكلّم..

يكمل عقيل روايته: "شعور مرعب باللاأمان، هو ما كنت أشعر به في أكثر وقت أحتاج فيه إلى الحنان والرعاية. كنت أريد عائلتي أن تكون بجانبي طوال الوقت. أستيقظ عند الرابعة فجراً وأسأل عنهم لماذا لم يأتوا لزيارتي، فيخبروني أن الوقت هو الفجر لا العصر. عدم قدرتي على الكلام كان موتا آخر. يختنق الكلام في داخلي وأختنق معه. كلما أردت الكلام خرج الهواء من حنجرتي وتعبت. ظننت أنني لن أتمكن من استعادة صوتي. أرعبني ذلك كثيراً. طمأنوني أن ذلك مؤقتاً. كنت أطلب ورقاً وقلم لأكتب لعائلتي. لا يُسمح لي بسهولة، يقف أحدهم على رأسي ليرى ماذا أكتب، يقرأها أولاً ثم يعطيها لهم، ثم ما إن يقرؤوها حتى يأخذها منهم ويقطعها أمامي. حتى الكتابة بيدي اليمنى كانت مهمة عسيرة، فجسدي المخدّر طوال اليوم انعكس ثقلاً على يدي".

أخوات (عقيل) تمكنّ من تسريب بعض القصاصات الصغيرة. أحضرن بعضها لـ(مرآة البحرين). إحدى هذه القصاصات دوّن عليها حسرته: "أبي بس أتكلم وبستانس". قصاصة أخرى لعائلته : "أحبكم" فقط. وثالثة : "خلوا أمي لا تحاتيني أحبها واجد وأحبكم انتون بعد". تقول أخت عقيل: "ذات مرة لم تكن لدينا ورقة، أعطيناه الهاتف ليكتب، جاؤوا وأخذوا الهاتف وقرؤوا ما فيه وهددونا، كان يرعبهم تصريحه بأية كلمة أو تسريبها".

لن أغفر..

بعد أسبوعين، كان اللقاء الأول بين الأم الموجوعة والابن المصاب. كان لقاء مؤلماً وقاسياً على الطرفين. أم عقيل التي ترى للمرة الأولى حقيقة ما جرى على ابنها، وعقيل الذي كان في أمس شوقه وحاجته النفسية لحضن والدته. قبل أن تدخل أم عقيل، تلقت تهديدات حاسمة من والده: "لا تبك أمامه، ولا تنهاري حين ترينه، كوني قوية واعطيه دعماً نفسياً، يكفيه ما هو فيه، إذا بكيت سأسحبك للخارج". تمتثل الأم. تدخل على الفتى الجميل الذي شوهوا وجهه، يباغتها حجم الإصابة رغم  مضي أسبوعين: "هل هذا ابني؟ انفجرتُ من الداخل، لكني تماسكت لا بالقوة التي لم أكن أملكها، بل بالحب الذي لا أملك غيره، لكن لم أستطع منع دموعي" تقول أم عقيل وهي تبكي.

لكن عقيل لم يكن ليحتمل، شعر أنه انهار بالكامل بين يدي والدته، رغم أن وجهه بقي جامداً بسبب فعل التخدير، لكن عينيه لم تتوقفان. يتوقف عقيل عن الاسترسال في الذاكرة، يصمت جميع من في المجلس، الدموع وحدها تعبُر بين الجميع. تُخرج الأم فورة بكائها الذي كتمته منذ ذلك الحين، يتمتم عقيل: "لن أغفر لهم دموع أمي.."

العملية الأصعب..

كيف استقبل عقيل المرآة حين شاهد وجهه للمرة الأولى؟ "لمدة شهر ونصف فترة وجودي في العناية المركزة لم أر وجهي، كان سيكون أكثر صعوبة لو حدث. المرة الأولى التي نظرت فيها إلى وجهي أصابتني صدمة كبيرة جداً، انغممت بشدة وسألت نفسي: هل من الممكن أن يعود وجهي يوماً؟ لا يشرح عقيل أكثر. يستدرك "الدعم النفسي الذي أحاطني به الجميع خفف عليّ كثيراً، كان الجميع يطمئنوني أن وجهي سيعود بشكل تدريجي، كنت أريد تصديق هذا، وأريد أن أسعى نحوه بقوة".

في هذه الفترة تُجرى لعقيل عملية ثالثة، يؤخذ فيها جلد من منطقة الفخذ، ويوضع في اليد التي تهشمت عظامها وصارت بلا جلد يغطي العظم. بعدها بفترة غير طويلة، تُجرى له العملية الأصعب والأكثر إيلاماً. في هذه العملية يتم أخذ عظم من منطقة الحوض، ويوضع في اليد، ثم يتم نزع الحديد الذي وضع محيطاً باليد في الخارج، ويُبقى على الحديد الذ وضع مكان العظم المهشّم في الداخل. 
   
                         أم عقيل تقبل فارسها
يتغير وجه (عقيل) وهو يتذكر آلام هذه العملية بالذات: "هذه العملية كانت الأصعب والأكثر ايلاماً، لقد أهلكتني بالفعل، لا أستطيع نسيانها أبداً، كنت قبلها للتو بدأت أستطيع الحركة من السرير، والمشي قليلاً، لكنها أقعدتني مجدداً، لم أكن أحتمل حتى أن يهز أحدهم السرير، كنت أتلوى ألماً، لا أستطيع أن أتحرك أو أنقلب، آلامها تفوق طاقة جسدي، كانت يدي منتفخة مثل بالون وأصابعي لا تتحرك".

قم من أجلي..

كيف تلقت زينب خطيبة عقيل المسج التي أرسلها لها: سامحيني؟ كانت عائلة عقيل قد تقدمت لعائلة زينب لطلب يدها. يعلم الجميع أن الوقت مبكرٌ لكليهما، فهو في الـ20 من عمره وهي في الـ 19. لكنه أراد أن يضمن أن تكون له حين تتخرج ويعمل. صار التوافق بين العائلتين.

تلقت زينب المسج ولم تستوعبها. لم يكن قد وصلها أي خبر بعد. اتصلت بهاتفه، فرد عليها صديقه الذي احتفظ بهاتفه بعد تصويره ملوحاً بعلامة النصر. أين عقيل؟ سألت. أجابها: اتصلي بأخته. بدأ القلق يعتصرها. اتصلت من فورها بأخته: ما به عقيل؟ كانت الأخرى تصرخ في حالة  هستيرية من داخل المستشفى: قتلووووه.. قتلوا عقييل... نتفووووه. انهارت زينب على الطرف الآخر من الهاتف وراحت تصرخ بشكل هستيري هي الأخرى. تداركها والدها قبل أن يُغمى عليها. أفاقت وظلت تصرخ: خذوني إلى المستشفى الآن حالاً أريد أن أرى عقيل. لم يُسمح لهم. "كنت في كامل انهياري، لأيام بقيت لا أستطيع النوم والطعام ولا الكلام، كان أبي ينام معي في الليل ليطمئن علي. لكني فجأة، وبينما كنت في حالتي المنهارة عندما سمعت صوت في داخلي يقول: سيعود عقيل. هذا الصوت جعلني  أهدأ كثيراً وأشعر باطمئنان، كان لا بد لي أن أكون قوية لأدعم عقيل، هو أحوج ما يكون إلى قوتنا لا ضعفنا. كانت تلك مسؤوليتي". 

لم يكن هناك عقد شرعي يسمح بجلوس زينب مع عقيل، في الحقيقة لم يكونا ينويان ذلك قبل أن تنتهي زينب من دراستها، لكن الأمور الآن سارت بطريقة مختلفة. لكي تتمكن زينب من زيارة عقيل والجلوس معه بشكل شرعي، تم عمل (عقد لمس) بينهما في غصّة خالية من الفرح، عقد عليهما شيخ دين، هو ذاته الذي سيعقد قرانهما بعد خروج عقيل. هذا العقد سيسمح لزينب بالجلوس مع عقيل ولمسه. "كنت أذهب إليه كل يوم بعد الجامعة وأجلس معه وأمسك بيده وأشد عليها وأقول له: قم من أجلي يا عقيل". 

تكمل أخته زينب: "وجود خطيبته معه كان داعماً كبيراً له. كانت تقويه وتشدّه نحو الحياة. تعطيه دافعاً ليقوم وليقاوم. عندما قلنا له بأننا سنعقد قرانك على زينب فور خروجك من المستشفى أبدى فرحاً كبيراً وشعرنا به يتقوى، ويصر على أن يتماثل للشفاء سريعاً".

عندما نطق عقيل..

لعقيل مع الكلام قصة طريفة. بعد أن تم إنزاله من العناية المركزة إلى الجناح العام. لم يكن عقيل قادراً على الكلام بعد بسبب (الهوز) الذي ثقب رقبته. ما إن بدأ بالسماح للزيارات العامة، توافدت الناس إليه من كل مكان. بعض النسوة العائدات من (الزيارة) في العراق، حملن أقمشة تم تمريرها على (الأضرحة المقدسة) للتبرك. جئن بها ومسحن بها على وجه عقيل ورقبته. تقول أخته زينب: "في ذلك اليوم خرجت من عنده وهو لا يتكلّم. لم ألبث أن جاءني اتصال من إخوتي أن (عقيل) تكلّم. لم أصدق حتى سمعت صوته على الهاتف. الطبيب تعجب وقال لا يمكن أن يتكلّم قبل أن يزال الأنبوب وتلتحم الفتحة. كيف حدث هذا؟ لم يكن مصدقاً". 

بقي عقيل يتكلّم لمدة أسبوعين قبل أن يجري العملية الأصعب التي أشرنا لها سابقاً. عاد بعدها للصمت مرة أخرى. وبعد أسابيع أزال الطبيب الأنبوب، نطق بعدها باسبوعين.

وغادر المستشفى..

3 أشهر كاملة قضاها عقيل داخل مستشفى السلمانية، أجرى خلالها 5 عمليات جراحية، وكانت تنتظره قائمة أخرى. يقول لعائلته: "أبي أرجع أعيش معاكم، تعبت خلاص". معظم الفترة التي تواجد فيها عقيل داخل المستشفى، لم يكن الطعام يصل إلى جسده إلا عبر المغذي (السيلان)، وحين بدأ الطعام يدخل جوفه عن طريق الفم، اقتصر على السوائل، لهذا انحدر وزين عقيل بشكل كبير، وهو النحيف بالأصل.
 
                      يوم الخروج من المستشفى

يغادر المستشفى في  2 فبراير 2013، يستقبله الناس مثل فارس نبيل وبطل صامد. محبّة الناس وفرحتهم  واحتوائهم تخفف عن عقيل بعض أوجاعه التي كابدها طوال الأشهر الثلاثة، يتم عقد قرانه في 19 فبراير كما وعدته عائلته، في حفل عائلي ضيق الحدود، كان الفرح متحفظٌ عليه، فجثمان الشهيد محمود الجزيري لا يزال محتجزاً. 

قائمة العمليات التي تطول..

الفارس، لم يطل به الفرح بعد عقد قرانه، خلال شهر واحد كان عليه العودة إلى المستشفى، في 26 مارس أجريت له عملية جديدة في الفك، أخذ عظم من رجله اليسرى، ووضع في الفك الذي لا زال يُعمل على ترميمه. هذه العملية أعادت النفخ إلى وجه عقيل وأبرزت الجرح من جديد، بدا وكأنه عاد إلى نقطة الصفر. ينظر عقيل إلى وجهه في المرآة بعد العملية، يحاول أن يخفي صدمته: "لم يتغير شيء!".
 
يغادر المستشفى في 8 ابريل. يقول لعائلته: "لا أريد عملية أخرى، تعبت". لا يزال عقيل حتى الآن، وبعد هذه العملية، لا يستطيع تناول الطعام إلا بشكل محدود جداً، السوائل غالباً.

أسبوعان، يعود بعدها إلى المستشفى مرة أخرى، في يوم 22 إبريل تجري عملية في عينه اليسرى، تلك التي فقدت نورها جراء الطلقة، تسببت في تحريك الشبكية وتجمع الدم في العين: "لا أرى منها، أجروا لي العملية لإعادة الشبكية لمكانها كي لا تسوء أكثر، لكني لا أزال لا أرى. سأسافر إلى الخارج للعلاج حين تسمح صحتي بالسفر، فيبدو أن عيني لا حل لها هنا".

لم تنته العمليات بعقيل هنا، ليس بعد، تنتظره عملية قادمة في اليد، وسلسلة من عمليات التجميل، بالإضافة إلى معالجة عينه التي لا يرى منها "نصفي الأيسر كله معطل، بدءاً من عيني اليسرى، وفكي الأيسر، وأسناني السفلى التي فقدتها بالكامل، ويدي اليسرى، ورجلي اليسرى التي أخذوا منها العظم مؤخراً، حتى الآن لا أستطيع المشي بشكل طبيعي". 

خارج المعهد

يزور عقيل المستشفى بشكل يومي لتلقى العلاج الطبيعي "صارت المستشفى بيتي الثاني، عرفني الجميع هناك بلا استثناء" لهذا السبب لم يستطع عقيل الانتظام في دراسته. فقد عقيل 3 أعوام من دراسته في معهد البحرين للتدريب في تخصص الميكانيكا. كان قد تبقى عليه الفصل الدراسي الأخير حين وقعت إصابته. لم تُقبل منه الأعذار الطبية وأُخبر أن عليه أن يعيد من جديد. أعاد التسجيل، وبدأ الحضور بالفعل، لكنه وجد نفسه يغيب كل يوم لنفس أسباب العلاج والعمليات التي لا تنتهي، وفي كل مرة لا أعذار تُقبل. ترك المعهد.

أنا الجاني..

بعد أسبوع واحد من إجرائه العملية الأخيرة في العين، يستلم عقيل احضارية للتحقيق معه في مركز الشرطة (في 30 ابريل). التهمة: التستر على مطلوب (رضا الغسرة)، ومحاولة الشروع في قتل رجل أمن عن طريق الدهس. يذهب عقيل بكامل إصاباته (عينه المنكوبة وفكه المرمّم ويده المهشمة وساقة المتورمة) للتحقيق معه. يستغرق التحقيق ساعتين كاملتين. يتم إيقافه في مركز الشرطة منذ التاسعة صباحاً حتى الرابعة والنصف عصراً، ثم يخلي سبيله. لا يعرف عقيل ماذا ينتظره بعد هذا. لكن يعرف أن الأمر محسوم مسبقاً ضد الضحية لا الجاني، وأن الشرطي الذي أطلق النار من مسافة متر واحد وكاد أن يودي بحياة الفتى، صار هو الضحية، والفتى العالق في إصابته حتى اليوم، صار هو من شرع في القتل. 

ألم لا ندم..

كيف تعيش مع كل هذا القدر من الألم؟ ألا يشعرك كل هذا الألم بالندم؟ كان هذا السؤال يتراودنا بقوة. يجيب عقيل: "سأعترف أن جسدي الضئيل ليس مهيئاً لكل هذا القدر الكبير من الألم، وسأعترف أني تعبت كثيراً من الجراحات والمستشفيات والعلاج الذي يبدو وكأنه لا يريد أن ينتهي، وسأعترف أنني قلق بشأن إمكانية عودة شكلي لما كان عليه في الأصل، لكن رغم كل هذا لا أشعر بالندم. في ذلك اليوم الذي أصبت فيه كنت كتبت على جهازي الـ( BB): "إن عطاء الدم ثمن الحرية". لن أكون أقل من هذا العطاء وسأبقى صامداً فالحرية تستحق. وسعيد الآن بكل ذلك الدعم والحب الذي أحظى به من كل من هم حولي: عائلتي وزوجتي والمجتمع، وأثق أنني سأنتهي من كل هذا يوماً، وأنني سأروي ذات يوم حكايتي لأبنائي، بقدر أقل من الألم، وبقدر أكبر من الفخر". 

زفة الفارس..

والدة عقيل التي لم تجف دموعها طيلة الساعتين ونصف التي قضتها (مرآة البحرين) معها، تبتسم لابنها بفخر وكبرياء، تعقب: "سيتعافى عقيل، وسنرتب له حين ذاك حفل عرس كبير جداً، سندعو له الجميع دون استثناء، وسأزفه بنفسي فارساً وسيماً فوق حصان، وسأنثر عليه مشموم الفرح، عهداً يا عقيل".

الحلقة الأولى:

التعليقات
التعليقات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع

comments powered by Disqus